إبداع

أبو المساكين

قصة قصيرة من مجموعة «صاحب اللثام وأهل المدد»

Latest posts by أميمة منصور (see all)

رجل من أهل الله كان خير الناس للمساكين، حتى لقبوه بـ«أبي المساكين»، وكم أنفق من ماله، وعمره، وأيام حياته، لأجل هؤلاء الفقراء، وكم أسعدهم، وأدخل السرور على قلوبهم، وأطعمهم أشهى الطعام الذي حُرموا منه لضيق ذات اليد، وكم كانت سعادتهم وهم جالسون معه حول مائدة السماء، التي كانت تأتيهم بفضل من الله ربِّ العالمين!

     أما هو كان أكثر منهم سعادة، وهكذا هم العطائون، حين يسعِدون البشر يكونون أكثر سعادة، يقول «أبو المساكين»:

  • ليس السعيد من أسعد نفسه، لكن السعيد من أسعد اللهُ به غيره، هكذا هُم أهل الله…

   وفي يوم من الأيام كان «أبو المساكين» يمشي ومعه صرة فيها مال كثير، فقابله مسكين قال له: شيء لله! فأعطاه كل الصرة، وكل المال، وأخذ الناس يلومونه.

    فرد عليهم:

  • المسكين يقول شيء لله، والمال مال الله!

   ثم أخذ يهتز ويبكي.

     كان «أبو المساكين» يسمِّي الفقراء والمساكين بالأمراء والوجهاء، وذات يوم طلب إعداد طعام فاخر، وقال:

  • لقد دعوت اليوم إلى الطعام أمراء ووجهاء، فأعدوا لهم سفرة فاخرة!

     وبالفعل أعدوا سفرة عليها كل أطايب الطعام، ولما عاد «أبو المساكين» وجدوا معه وبرفقته أناس فقراء ومساكين، يلبسون المرقعات، والملابس الممزقة، فسألوه:

  • من هؤلاء؟!

    فأشار إلى أحدهم، وقال:

  • هذا أمير أهل الغرام، والآخر أمير أهل العشق والهيام، والثالث وارث مقام وجيهًا في الدنيا والآخرة… هؤلاء يا ناس هم الأمراء والوجهاء.

   كان يعلم علم اليقين أن الإحسان هو باب دخوله على الله، نعم لقد أفاض الله عليه من الحكم، والعلوم، والأنوار، والكرامات التي أذهلت المحيطين به، نعم كان يشكر ربه ويقول صدق الله العظيم حين قال: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)…

     في يوم من الأيام كان جالسًا يحمد الله ويثني عليه، فأخبروه أن رجلًا غنيًّا كان مريضًا بمرضٍ عضال لا ينجو منه إلا القليل، فقال «أبو المساكين»:

  • إن أراد أن يُشفى من مرضه يذبح ذبيحة، ثم يوزع لحمها بنفسه على الفقراء.

    ثم قال لهم:

  • «داووا مرضاكم بالصدقة!».

    فشُفِيَ المريض في الحال.

      ومرض رجل غني وثري، فنصحوه بالذهاب إلى «أبي المساكين»، فذهب إليه، وكان قادمًا من عند الطبيب المعالج، وكان وقت تناول الطعام، ولم يكن لديه طعام يليق بهذا الغني، فنادى على أهل بيته يسألهم عن الطعام، قالوا:

  • ليس عندنا إلَّا الفول النابت.

   فقال لهم:

  • أحضروه، وقدموه!

     وإذ بالرجل يصيح:

  • مدد يا «أبا المساكين»، لقد وصف لي الطبيب الفول النابت كغذاء ودواء!

     كم كان رقيقًا متواضعًا زاهدًا في الدنيا وبريقها، لا يريد منها سوى وجه الله، كان عبدًا ربانيًّا يقول للشيء كن فيكون، ومع ذلك لم يطلب إلَّا رضا المولى سبحانه وتعالى.

     وأراد «أبو المساكين» أن يحفر بئرًا للوضوء في بيته، وحين بدأ العمل، وبعد أن وصلوا إلى قاع البئر، إذ بصياح يأتي من المكان:

  • يا «أبا المساكين»، لا فقر بعد اليوم، ولا حاجة بعد اليوم، لقد وجدنا أثناء الحفر كنزًا من ذهب.

    أقبل عليهم «أبو المساكين»، ووضع يده على الكنز، وقال:

  • بسم الله الرحمن الرحيم.

    فعاد الذهب ترابًا، فتعجبوا، وحزنوا، وسألوه:

  • يا «أبا المساكين»، لماذا فعلت ذلك؟

   قال لهم:

  • يا أولادي إن الفقراء والمساكين ليس لهم الذهب، ولا الفلوس، بل لهم في القدوس، ليس بالفلوس تتزكَّى النفوس، بل بمعرفة القدوس.

وراودته الجبال الشم من ذهب                    عن نفسه فأراها أيما شمم

من المجموعة القصصية «صاحب اللثام وأهل المدد» الصادرة عن دار النخبة العربية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى