إبداع

أرسطو وجوبلز

الدراما جزء من حياة الناس على مر العصور

د.تامر عزالدين
Latest posts by د.تامر عزالدين (see all)

يرى أرسطو أن المحاكاة أو التراجيديا ينبغي أن تؤدي إلى التطهير عن طريق إثارة إنفعالين في نفس المشاهد وهما «الشفقة والخوف».

كي يتخلص من نزعاته الشريرة، ورغباته الجامحة وفرديته العمياء وتهوره الأحمق وغطرسته الزائفة، حينما يشاهد بعينيه مصارع الآخرين ودمارهم، لأن الحكمة والمعرفة التي أُثرت عنهم لم تستطع الصمود أمام نزعاتهم الشريرة لم يتحكموا فيها، بل تركوها تتحكم بهم وتجعلهم ينحرفون.

بينما يري جوبلز وزير الدعاية الألماني في عصر هتلر، أن يتعمد سارد القصة إلى إبراز جوانب مِن القصة أو الحدث والتركيز عليها.. وإغفال أو تجاهُل أو طمس أجزاء أخرى؛ حسب هوى المُتحدِّث وميوله بالنسبة للأشخاص، وحسب موافقتها لسلم الأولويات في القناة الإعلامية.

فإذا أراد تصوير مشهد يريد من خلاله وضع المشاهد أمام رأي محدد موجه فيصور مثلًا موقف زيارتك ﺻﺪﻳﻘًﺎ ﻟﻚ ﻓﻲ ﺑﻴﺘﻪ ﻭيجعله ﻳﺴﺄﻟﻚ: ﺗﺸﺮﺏ ﺷﺎﻱ ﺃﻭ ﻗﻬﻮﺓ؟ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﺃﻥ ﻳﺨﻄﺮ ﺑﺒﺎﻟﻚ ﺃﻥ ﺗﻄﻠﺐ ﻋﺼﻴﺮًﺍ ـ ﻣﺜلًا.. ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺿﻊ ﻳﺴﻤﻰ: ﺃﺳﻠﻮﺏ (ﺍﻟﺘﺄﻃﻴﺮ)، أي أن يضع المشاهد داخل إطار فكري محدد ﻓﻬﻮ ﻗﺪ ﺟﻌﻞ ﻋﻘﻠﻚ ﻳﻨﺤﺼﺮ ﻓﻲ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺕ ﻣﺤﺪﺩﺓ ﻓُﺮﺿﺖ ﻋﻠﻴﻚ ﻻ ﺇﺭﺍديًا ﻭﻣﻨﻌﺖ ﻋﻘﻠﻚ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻻﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﻤﺘﺎﺣﺔ، ومن هنا كانت خطورة الدراما بشكل عام.

 

النشأة التاريخية للدراما في حياة الناس

وللدراما في حياة الناس تاريخ عريق فيمكن القول أنها بدأت على يد المصريين القدماء، حيث تجد في تاريخهم كل مقوماتها، النص والجمهور والصراع والمحاكاة.

وقد اكتسبت الدراما في مصر الفرعونية طابعًا دينيًا نظرًا لنشأتها داخل أروقة المعابد، ونستطيع أن نقول بأن قصة إيزيس وأوزوريس أقدم نص درامي مسرحي عرفته البشرية، فالفراعنة هم أول من قدموا فن الدراما في أبسط صوره.

ثم انتقلت الدراما بعد ذلك إلى الحضارة اليونانية، وهنا خرج مصطلح «دراما»، وهذه الكلمة ترجع أصولها إلى اليونانية القديمة فأصلها كلمة dran وتعني هذه الكلمة الفعل والحركة، لذلك عرَّف أرسطو الدراما بأنها محاكاة لفعل نبيل، وأضفى اليونانيون على الدراما عناصر اكتمالها.

وقد وجد بعض رجال الدين أن الدراما يمكن استخدامها في خدمة الدين من خلال الفِرق الدينية التي تعرض تعليمات السيد المسيح، وظلت الدراما تخرج من عباءة دين لتدخل إلى عباءة دين آخر، وظلت هكذا ردحًا من الزمن حتى بدأت تتشكل الدراما الحديثة.

ثم ارتبطت الدراما الحديثة بعد ذلك بالمسرح، وشهدت الدراما ازدهارًا مختلفًا عن عصور النشأة، فقد خرجت من الثوب الديني لتنطلق إلى رحاب الحياة الإنسانية وتتعرض لقضاياه، الاجتماعي والسياسي والشعبي، واتخذت طرقًا مختلفة للعرض.

 

الدراما وبدايات عصر النهضة

ومع بدايات عصر النهضة ظهر كتاب النصوص المسرحية كنصوص شكسبير وغيره، وظهرت الدراما الشعرية، والدراما النثرية، كمسرحيات أمير الشعراء أحمد شوقي.

فالدراما إذن هي نص أدبي كُتب من أجل تأديته أمام الجمهور، يكون الاعتماد فيه على الحوار، ونصوص الدراما اتخذت أشكالًا متعددة حتى وصلت إلى شكلها النهائي اليوم وهو السيناريو.

واستطاعت الدراما أن تستفيد من التطورات المصاحبة للنهضة الصناعية، وكان اكتشاف الكاميرا واختراع السينما  طور جديد من أطوار التطور التاريخي للدراما، فهي لم تعد مقتصرة على أروقة المعابد أو جوانب المسرح، بل انطلقت إلى عالم أكثر رحابة وسِعة.

فبدأت  الأفلام الصامتة على نحو أفلام شارلي شابلن الصامتة، ومع مرور الوقت بدأت الحاجة إلى ظهور أفلام ناطقة، فكانت الروايات المحولة إلى أفلام سينمائية، وهكذا بدأت الدراما في شكل جديد من أشكالها وهو الفيلم السينمائي.

وبظهور التليفزيون كانت الحاجة إلى محتوى ترفيهي بجانب اللقاءات الحوارية والنشرات الإخبارية، على أن يستطيع هذا المحتوى جذب المشاهدين إلى هذه الشاشة الصغيرة، فظهرت بعد ذلك فكرة الحلقات الدرامية ذات الموضوع الواحد، ومنها ظهرت فكرة الدراما التليفزيونية في شكل المسلسل التليفزيوني.

وكانت بدايات هذا الفن في النصف الأول من القرن العشرين في أوروبا وبالتحديد في فرنسا، ثم انتقلت الدراما بعد ذلك إلى جميع انحاء أوروبا، وكانت مصر من أوائل الدول العربية في إدخال الدراما التليفزيونية إلي شاشة التليفزيون المصري، وذلك في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين عن طريق مسلسل تليفزيوني يسمى «جهاز المعلم شحات».

 

تشكيل الوعي المجتمعي من خلال الأعمال الدرامية

وعلي طول هذا التاريخ للدراما كانت هناك دائمًا توجيهًا ما من ورائها، سواء كان توجيهًا سياسيًا أو دينيًا أو مجتمعيًا يظهر في موضوعها وطريقة معالجتها، لِما لها من أثر واضح في تشكيل الوعي الجمعي والسلوك المجتمعي.

وقد يتفق الغالبية على قدرة الدراما التلفزيونية في التأثير على الناس وإن اختلفت نسبة التأثير واختلفت طريقة تأثيرها بين شخص وآخر.. البعض يرى أنها قادرة على التأثير بنسبة كبيرة وتملك قدرة على التغيير في طبيعة حياة أفراد المجتمع، في حين يرى البعض الآخر أن الدراما إفراز المجتمع وهو الملهم في ما تتناوله من قضايا.

بينما الواقع يقول أن لا شيء يُغير المجتمع إلا المجتمع نفسه، والدراما جزء من المجتمع يشكله فئة معينة فيه يؤثرون بشكل مباشر على فئات المجتمع المختلفة، ويكون أقل الفئات تأثيرًا في وقتٍ ما بما يقدم لهم الناضجين لأن وعيهم قد تشكل بالفعل..

وستجد أن الأكثر تأثرًا بمضامين الدراما التلفزيونية هم الأطفال والمراهقين، فغالبًا ستجد أن سلوكياتهم وقيمهم الاجتماعية.. هي انعكاسات متابعتهم للدراما التلفزيونية على وجه الخصوص.

ولأن الدراما التلفزيونية تحتل مكان الصدارة وتمثل النصيب الأوفر في برامج الترفيه والتسلية خاصة في المواسم كرمضان وغيره، فإن الملاحظ مدى الاهتمام الكبير الذي يعطيه لها المراهقون والشباب.. فساعات طويلة تقضيها هذه الفئة العمرية لمتابعة ما تعرضه الشاشة الصغيرة من مسلسلات وتمثيليات، لذلك فإن التأثيرات التي تفرزها لا تشكل تحديات لثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا فحسب بل تشكل خطرًا يمس سلوكيات تلك الفئة العمرية..

 

كيف تؤثر الأحداث الدرامية التليفزيونية على النشء؟

تأثيرات تعمل على تثبيت ملامح عامة لنماذج مضمون ومحتوى الدراما المعروضة على الشاشة حيث أن غالبيتها ترويج للعنف والتمرد والوحشية وتمجيد للمغامرات الفردية المؤذية للشخص نفسه أو للغير.

الجريمة والعنف.. الوحشية والتمرد.. الانحراف والخيانة أبرز سمات غالبية الدراما التلفزيونية مما شجع المسلك السلبي المقيت لدى بعض الشباب والأطفال والمراهقين تقليدًا لشخصيات الدراما المعروضة.. وكثيرًا ما نقرأ أو نسمع عن أطفال وشباب دفعتهم الأحداث الدرامية إلى سلوك منحرف أو حملتهم على ارتكاب جرائم لم تكن سوى انعكاسات لمضامين ما يُتابع عبر الشاشة.

إذًا فإن الدراما فعلًا تؤثر في القيم والأذواق بل والكلمات، فكثير من أعمالها تتحول إلى أحاديث بين الناس، وأفكار تتحرك في المجتمع يتداولها أشخاص كُثُر؛ بل يتسمى بعض الأطفال بأسماء أبطال المسلسلات، كما تنعكس ما تطرحه في أذواق الناس، ويُستخدم بعض الأبطال في الدراما الناجحة في عمليات الترويج السلعي والسياحي.

إننا نعيش حقبة تاريخية لها وسائلها وتقنياتها ومنها البث عبر القنوات الفضائية والإنترنت الذي أصبح بمضمون برامجه جزء من التحول الاجتماعي بقيمه وممارساته، والتي لا يمكن تجاهل تأثيراته على جميع مناحي الحياة.. وتتطلب اتخاذ مواقف واعية وجادة في التعامل معها.

 

أرسطو وجوبلز والهدف من تقديم الأعمال الدرامية

لم يخطئ أرسطو في طرحه ورأيه في الهدف من وراء تقديم الدراما، إنما الواضح أن نظرية جوبلز هي الشائع استخدامها لوضع المحتمعات في إطار محدد وتوجيه سلوكياته نحو نمط معين.

هناك فجوة بين الواقع وتمثيله، حيث أن جميع التمثيليات تبعًا للمصطلح مؤطرة ذات اتجاه وموقف واحد، أو مُسفَّهة نتيجة لمعالجة في الغالب مشوَّهة عن جهل أو قصد.

ولا أريد التعميم، فهناك دراما جادة وهادفة تُقدَّم أحيانًا ولكنها ليست القاعدة بل هي استثناء، وصدق الدكتور مصطفى محمود رحمة الله عليه عندما قال:

«الكتاب الجيد يحرر الإنسان الذي يقرأه، أما التلفزيون الجيد فيعتقل الإنسان الذي يشاهده».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى