«أطياف المحبرة» تبحث عن إجابات الأسئلة
هروب من عوالم الحياة اليومية المليئة بالعثرات إلى عالم السرد

صدر حديثًا عن دار النخبة العربية للنشر والطباعة والتوزيع، المجموعة القصصية «أطياف المحبرة»، للكاتبة السورية فدوى الحسين.
تقع المجموعة في 62 صفحة من القطع المتوسط، تظهر فيها بوضوح ما فعلته الحرب والتهجير القسري والأوضاع السياسية في الحياة الاجتماعية، تناولت فيها الكاتبة موضوعات لا تخلو من ظلال تلك الحياة المليئة بالأحداث المؤلمة.
«أطياف المحبرة»
يقول الكاتب السوري الكوردي صبري رسول، في مقدمة «أطياف المحبرة»:
يلاحظ قارئ هذه المجموعة أنّ كاتبتها بدأت البحث عن أجوبة مستحيلة لأسئلة كبرى تُصَاغ وتطرح نفسها بقوة بعد اجتياح الكارثة السورية جوانبَ الحياة كلّها. هنا لا يمكن سلخ النّصوص من السياقات الاجتماعية والسياسية وانعكاسات الحرب المدمّرة عليها، ومدى تأثيرها على مسارات السّرد وفنياتها بدءاً من اللغة السردية وليس انتهاءً بنهايات القصص المشبعة بالإحباط.
بدا لي مؤخّراً أنّ فدوى حسين لجأت إلى عالَم الكتابة (قصص، دراسات، مقالات…) هروباً من عوالم الحياة اليومية المليئة بالعثرات في مواجهة أحداثٍ عظام.
الهروب إلى الكتابة
قد لا يستطيع المرءُ الانسجام مع متغيرات اجتماعية واقتصادية متسارعة، فيتحتّم عليه إمّا أنْ يكون جلاداً أو ضحية. والهروب إلى الكتابة قد يكون المخرج الوحيد لبعض الناس، وقد تكون الكاتبة من هذه الفئة.
تناولت قصصها موضوعاتٍ عديدة يواجهها الإنسان في مراحل حياتية كثيرة، قد يكون النزوحُ الداخلي المفروض والهجرة الخارجية القسرية من أبرزها.
في الحروب يتبيّن جوهر الإنسان الحقيقي. الإعصار السوري كشف الكثير من الحقائق التي كانت مختفية تحت أقنعة متعدّدة، وظروف الهجرة الخارجية تكشف قساوة الإنسان على أخيه، حيث تضمر القيم النبيلة وتتوحّش الغرائز البدائية في سلوكه.
جولة بين قصص المجموعة
في قصة (مازلتُ أنتظر) يُلاحظ القارئ أنّ المرء يتجرّد من المشاعر الإنسانية إذا سيطرت عليه شهوة الحصول على المال، فيتعامل مع الإنسان بوصفه سلعة قابلة للتجارة وجلب الفائدة. وقصة (مذكرات قمح ناجية)، تكشف الوحشية التي يتّصف بها الإنسان في أزمنة الحرب. إحراق الحقول وكائناته من حيواناتٍ وطيور وحشرات، تؤكّد غياب الإنسانية وحضور الوحشية البدائية.
أشخاص كثيرون نصادفهم في الشارع والمنزل والسوق، ونتعامل معهم في العمل والعلاقات اليومية هم محور النصوص السردية في هذه المجموعة، كاختلاف الأفكار المطروحة تختلف تلك الشخوص وسلوكياتهم، فمنهم مَنْ يحمل قيم الشرّ ويبقى خاضعاً لها، ومنهم من يقع ضحيةً تلك القيم.
أرواح هائمة طائرة بأجنحة مكسورة تتلهّف إلى أفقٍ يتأخر، إلى هدفٍ قريبٍ لايتحقّق إلا بعد أوجاعٍ عميقة. تلك هي حالة هؤلاء الضحايا. حتى عناوين المجموعة توحي بالتسارع والاختصارات، فجاءت بكلمة واحدة أو ثنائية في حالة مضاف ومضاف إليه. بضعة منها فقط بثلاث كلمات، وهي تنمّ عن الظلم والقساوة (ذاكرة من ألم، ليلُ زنزانتي الطويل، رسائل منتصف الليل).
التعلق بالمكان
تحنُّ الرّوح إلى أماكن تعيش مع المرء في حلّه وترحاله، فيمنح المكانُ للإنسان مقدراته ويظلّله بأجنحة الاستقرار إنْ كان هناك تعلّقٌ بفضاء المكان، وإحدى سمات فطرية النّفس البشرية الألفة مع المكان، والسعي لبناء نسيجٍ من العلاقات معه. وتبقى لحظات الماضي تلاحق الإنسان، وتُصرّ على مرافقته، والحنين إليها من الموضوعات التي تناولها كثيرٌ من الكتّاب.
فدوى حسين القادمة من مدينة الأرق الكردية بعد طقسها الخريفي الطّويل، تناولتْ الفكرة من زاوية مختلفة، فروحها تحنّ إلى المكان وشخوصه وتفاصيل مفرداته.
تأثّرت نصوص المجموعة بالمناخ الكارثي الذي ألقته سنوات الحرب الطويلة على حياة السّوريين اليومية، ومن الطبيعي أنْ تُلقي بظلالها على رؤى الكتاب والمبدعين في كتاباتهم.
عناوينُ القصص تصرخُ بمضامينها وتوضّح كآبة الحياة التي يعيشها الإنسان في زمن الحرب: (حنين الروح، احتضار أنثى، تفاحة ٱدم، مقتل الربيع، طفلة الحرب، ظلمات، ذاكرة من ألم، ليلُ زنزانتي الطويل، رسائل منتصف الليل، مذكرات حبة قمح ناجية).
متعة السرد مع الأفعال الماضية
تتّكئ غالبية مفاتيح قصص فدوى على الأفعال الماضية التي تمنح السّردَ حركةً ومتعةً إضافية للقارئ مبتعدةً في هذا الأسلوب عن الافتتاحيات الوصفية، التي تبطئ حركة الأحداث وتقلّل شغف المتابعة لدى المتلقي. كما في قصة (طفلة الحرب) التي تبدأ بجملة: (تجوب الشوارع بقدمين صغيرتين حافيتين أدمتهما سياط الحرب).
قد يكون من الخطأ أن يسعى كاتب مقدمة مجموعةٍ قصصية إلى تأويل نصوصها لتقديمها مع كاتبها/ كاتبتها للمتلقي أو أن يلخّص تصوّره النّقدي الخاص للنّصوص والسياقات التي كُتِبت فيها. فالتركيز على الأبعاد الدلالية وكشفها للقارئ من مهمّة ناقدٍ أدبيّ يتناول النصوص بشكل خاصّ، مع التركيز على البعد الدلالي للنّصوص وخلفياتها المعرفية. لذلك ابتعدتْ هذه المقدمة عن التقييم النقدي، وإن وجِدَتْ شذراتٌ مبعثرة فلن تكون سوى انطباعاتٍ سريعة كأي قارئ باحثٍ عن متعة التلقي.
الكتابة تطهير للنفس
إذا كانت الفلسفة والرياضيات تطهران النفس- أحدهما علمّ تجريدي والآخر علمٌ فكري يخصّ المجتمع- وفق مقولة أرسطو، ألا يحق لنا أنْ نقول أنّ الكتابة نوع آخر من تطهير النفس؟
فالإنسانُ المعاصر، خاصة في أماكن الحروب والنزاعات امتلأت دواخُله بعوالق كثيرة، ليس الألم والخوف والحنين آخرها. في نصوص فدوى حسين يشعر القارئ بأنّها تطهّر روحها من الآثام والآلام والانكسارات، إنّها ترتّب الفوضى الشخصية المحدَثة في داخلها كإحدى انعكاسات المحيط الموضوعي على الأثر الشخصي.
قدّ تجرّك بعض النصوص إلى المشاركة في توليفٍ جديد للنّص يتداخل فيه إحساس القارئ مع أثر النّص بخفايا لاتجيد الكاتبة الصّبر طويلاً على إخفائه.