
- لماذا تراجع الأدب الفرنسي في العالم الناطق بالإنكليزية؟! - 22 سبتمبر، 2020
- جوائز أدبية على أنغام يوروفيجن؟! - 28 أغسطس، 2020
- حقيقة «الحب السماوي» في حياة «جبران» - 11 يوليو، 2020
يعتقد كثيرون أن الأعمال الأدبية الخيالية تستهوي المتلقي بنسبة أكبر من الأعمال الواقعية والسير الذاتية. فهي فضاء يحلق في أجوائه المتلقي المتعطش إلى الهروب من واقعه الدرامي المفعم بالهموم والمآسي والصراعات والأخبار الحزينة.
غير أنّ السنوات الأخيرة كشفت عن أقبال متزايد على الأعمال الوثائقية أو غير الخيالية، والمذكرات الشخصية، وسير حياة المشاهير لا سيما في المجتمعات الغربية.
ويمكننا بلا ريب تفسير هذا التحول بضجر الإنسان المعاصر من الأعمال الخيالية التي صار ينظر إليها على أنها مصطنعة ومستهلكة، لا تعبّر سوى عن أفكار وتوجهات صاحبها العليم، الذي يوظف فيها شخصيات وهمية، يتحكم في لغة حوارها، ويحدد بدايتها ونهايتها ويتدخل في مجريات أحداثها.
فقد صار المتلقي ينجذب على نحو متزايد نحو أعمال واقعية تلعب أدوارها شخصيات حقيقية، لا يحدد المؤلف أفعالها، ولا يملي عليها أقوالها، ولا يتدخل في سير أحداثها.
ومن جملة ذلك المذكرات الشخصية وسير المشاهير التي عادة ما يتم تسجيلها من خلال مخطوطات وكتب.
والسؤال الذي يطرحه كثيرون الآن هو ما إذا كان يمكننا أن ننظر أيضا إلى الفيلم السينمائي على أنه وثيقة تاريخية في وسع المؤرخ اللجوء إليها أو اعتمادها مصدرًا موثوقًا؟
الإمبراطورية الرومانية
الإجابة على هذا السؤال تكمن بلا ريب في السلسلة الدرامية التاريخية بعنوان «الإمبراطورية الرومانية: كاليغولا الإمبراطور المجنون» التي تُعرض حلقاتها في هذه الأوقات في الشبكة الترفيهية الأمريكية (نتفليكس) Netflix.
السلسلة تصوير دقيق، ووصف صادق لأحداث حقبة من سجل تاريخ الإمبراطورية الرومانية الحافل بالبطولات والأحداث. وهي منبثقة من أحداث واقعية اعتمادًا على حقائق تاريخية متفق عليها قابلة للفحص. ورغم الكم الهائل للأفلام والمسلسلات التي يجود بها موقع نتفليكس، فقد استطاعت هذه السلسلة أن تشد كل الأنظار لترتقي عن جدارة إلى قائمة أفضل عشرة أفلام في هذا الموقع الترفيهي العالمي.
السلسلة ترحل بنا إلى بدايات الإمبراطورية الرومانية وإلى عهد تيبيريوس، الإمبراطور الثاني الذي خلف القائد الكبير أغسطس حيث كانت الإمبراطورية في أوج توسعها، تمتد حدودها إلى هيسبانيا وسورية ومصر وشمال إفريقيا.
يسلط الفيلم الضوء على سيرة كاليغولا، إحدى الشخصيات التاريخية الأكثر جدلًا. الفيلم في حد ذاته لم يخلُ من الجدل والنقد لما تضمنه من مشاهد جنسية صادمة في فيلم تاريخي بالدرجة الأولى.
كاليغولا
توفي والده جرمانيكوس يوليوس قيصر، الجنرال الكبير في الجيش الروماني، وهو صغير، وتعرضت والدته أغريبينا الكبرى للنفي ثم القتل وهو بعيد عنها.
مارس علاقات جنسية مع شقيقاته الثلاث متطلعًا إلى الواحدة التي تنجب له ولدًا يخلفه إلى أن حملت جوليا دروسيلا . شقيقته أغريبينا الصغرى شعرت بالحسد لأنها كان طموحها التربع على عرش الإمبراطورية الرومانية وهكذا راحت تكيد لشقيقها من لحمها ودمها.
الشعب الروماني الذي كان ينظر إليه على أنه إمبراطور الشعب، صار ينظر إليه على أنه طاغية منحرف أخلاقيًا. كان زنا المحارم كما يُعرف باسم سفاح القربى أسوأ محرم وأكبر فضيحة في إمبراطورية روما. لكن دروسيلا مرضت ولم يستطع أحد إنقاذها أو إنقاذ الجنين.
بعد وفاتها دخل حدادًا واكتئابًا وتغير سلوكه، فتحمَّل عبء ذلك الشعب الروماني. حيث أعلن الحداد معاقبًا كل من خالف قواعده. وقد بلغ تأثره بوقتها حد أنه رفعها إلى مقام الإلهة مثل فينوس إلهَةُ الحب والجمال والرغبة والجنس والخصوبة والرخاء والنصر، أو جونو أخت وزوجة جوبيتر كبير الآلهة وأعظم الإلهات قوة ونفوذًا، وبلغت به الهواجس حد أنه فرض على شعبه أن يقسم بـ«الإلهة دروسيلا»!
ساءت أحواله العقلية. لم تتوقف تصرفاته الصادمة عند حد الزواج من شقيقته. فبعد وفاتها صدم مرة أخرى روما بزواجه من امرأة كانت حامل من رجل آخر، تدعى ميلونيا كايسونيا في بحثه اليائس عن خليفة. لكن فرحه لم يدم طويلًا أنجبت بنتًا، فهذه البنت كما كان يشعر سيتزوجها رجل وهذا الرجل يستولى مقاليد الحكم.
زواج الإمبراطور أشعر شقيقاته بالخطر. فتآمرت أغريبينا، ليفيلا وليبيدوس لاغتياله عام 39 للميلاد. لكنه تمكن من إفشال المحاولة فأمر بإعدام ونفي شقيقتيه إلى جزيرة بعيدة في المتوسط.
بذخ ولهو
راح بعد ذلك يحيا حياة عبث ومجون شرب والجنس. وراح يأمر ببناء التماثيل له في مختلف البنايات الشهيرة والمعابد غير مكترث بما كان يبذر من أموال الخزينة العامة. الذي سعى قبل قليل لتحويل زوجته إلى ربة صار يريد أن يتحول إلى رب (أنا الإمبراطور الذي لا ينازع سلطتي أحد وأنا ربكم الأعلى) وهذا ما يجسده إقامة ما لا يحصى من التماثيل وهو ما لم يحدث أبدًا في تاريخ الإمبراطورية الرومانية.
تبذير الأموال بلغ حد 13 بليون سسترس في أقل من سنة واحدة! ما أحدث عجزًا في ميزانية الدولة وهو ما أغضب مجلس شيوخ الإمبراطورية. لكن كان السباق إلى الهجوم حيث قام بمحاكمة عشرات الأعضاء وإعدامهم بتهمة الخيانة وهكذا تخلص الرجل من أعدائه دون التخلص من ديون الإمبراطورية. فلم يجد الإمبراطور المفلس بدًا من فرض ضرائب جديدة على المواطنين الرومان، ما أثار استياءهم وغضبهم
المخاطرة بغزو بريطانيا
وأغرب من كل ذلك قراره المفاجئ غزو بريطانيا. لم يكن هذا القرار وليد الصدفة ولا رغبة منه في المساهمة في توسيع الإمبراطورية الرومانية ومد حدودها غربًا إلى المحيط الأطلسي، وإنما بحثًا عن مخرج من الظروف الحرجة التي كان يمر بها. فبعد تدني شعبيته نتيجة إسرافه في تبذير الأموال العمومية ورفع الضرائب، فقد خطرت بباله فكرة شنّ حملة عسكرية على بريطانيا وضمها إلى الإمبراطورية.
لقد أدرك الآن كاليغولا أنه، بعد مرور سنتين من اعتلائه عرش أكبر إمبراطورية في العالم، لم يقدم شيئًا مما قدمه القادة الرومانيون السابقون للمواطنين الرومانيين. ففي عهده لم تحقق الإمبراطورية الرومانية أي فتوحات جديدة ولم يشهد المواطنون منه غير التعسف والرعب والموت منه هو نشر الموت والرعب. فكل ما أحسن فعله هو تبذير الأموال لأغراض ومصالح شخصية وإفلاس خزينة أعظم الدول وإثقال كاهل هؤلاء المواطنين بالضرائب لسد العجز المالي الرهيب.
ولكي يستعيد ثقة المواطنين ويثبت للعالم أنه جدير بالحكم وأنه لا يقل شأنًا وعظمة من الأباطرة السابقين، فكر في شن حملة لاحتلال بريطانيا سنة 41 بعد الميلاد. وإذا بالغزو ينتهي قبل انطلاقه نتيجة استبداده في الرأي وعدم أخذ الاحتياطات وهبوط معنويات أفراد الجيش الروماني وعدم استعدادهم المجازفة باجتياز البحر ومهاجمة بريطانيا المحصنة خلف جروف دوفر البيضاء، في فصل الشتاء القاسي.
وأمام تردد الجيش الروماني والخوف من تمرده على قائده، اضطر في الأخير إلى التخلي عن المخطط والعودة إلى روما منكلًا بأعداد من أفراد جيشه المكبلين بسلاسل في شوارع المدينة كما لو كانوا أسرى حرب!
مجلس الشيوخ يتدخل
فازداد قلق مجلس الشيوخ على حال زعيمهم المجنون الذي لم يعد يفرق بين أصدقائه وأعدائه. فقد اقتنعوا الآن بأنه ليس جديرًا بالبقاء في الحكم وبأن بقاءه في السلطة سيضر بمصالح الإمبراطورية، وبأنه قد حان الأوان لتنحيته من المنصب وتسليم السلطة لمجلس الشيوخ.
فهل سيجرؤ أعضاء مجلس الشيوخ على المشاركة في مؤامرة عقابها الإعدام، وهو من أفشل كم من مؤامرة من قبل؟ وهل يستطيع مجلس الشيوخ مواجهة أقوى رجل في روما والعالم وتنحيته من السلطة؟ وما رد أتباعه ومناصريه والساهرين على أمنه وسلامته ذوي الثقة؟
هذا ما يكتشفه المشاهد من خلال حلقات هذه السلسلة الدرامية الواقعية التي ترصد تاريخ أغرب حقبة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية.
إنه الفيلم الصادم تصوير دقيق لحقبة هامة من تاريخ عالمنا. إنه كتابة أخرى للتاريخ أكثر أمانة وثقة من مؤلفات تحكمها وجهات نظر أكاديمية أو تخضع لتأثيرات إيديولوحية.
يحلّق بنا بعيدًا في أغوار الماضي لنتأمل معًا إحدى صفحات أعظم إمبراطورية في تاريخ البشرية (الإمبراطورية الرومانية) طبعها حكم أحد الأباطرة الأكثر غرابة وإثارة للجدل في التاربخ.. إمبراطور اختلف عن كل الأباطرة الرومان السابقين الذي طبعوا أسماءهم في سجل التاريخ بما حققوه من انتصارات وفتوحات وازدهار للشعب الروماني.. إمبراطور حوّل قصره إلى بيت دعارة واستغرق في اللهو والمجون وانجرف في الانحراف الجنسي مرتكبًا الحرم مع شقيقاته وأوقع روما في الديون ونشر الرعب والموت بين المواطنين الرومان.
الإمبراطور المستبد
وإن كان أقوى رجل في الدنيا في عهده، فإنه اليوم ذُكر على أنه الإمبراطور المستبد والأناني الذي أضعف الإمبراطورية الرومانية، ويُشار إليه باسم “الإمبراطور الروماني المجنون”.
لكن رغم كل الآثار السلبية التي طبعت حكمه وفشله في الاستيلاء على الجزر البريطانية، فقد ساهم هذا الرجل القوي بشكل غير مباشر في تحقيق هذا المكسب لاحقًا، حيث مكنت تحضيراته السابقة خليفته كلوديوس من تحقيق الفوز وغزو بريطانيا عام 43 م.
وهو بكل المقاييس يعد فرصة مهمة لتطور الأداء التمثيلي والتخلي عن نمطية التجسيد في تقديم الشخصيات المركبة والشريرة، أو النوع الآخر من الشخصيات المثالية البلهاء، وهو بالفعل تحدٍ نجح فيه غالبية الأبطال، بمن فيهم الأطفال، الذين شغلوا حيزًا دراميًا.