
- أبيض وأسود - 22 فبراير، 2022
- البطل المفقود - 9 أكتوبر، 2021
- حصان طروادة - 28 أغسطس، 2021
لا يتصور أحد المجهود الذي تم، ولو عقدنا مقارنة بين ما تم وما يتم الآن في المحافل واللجان العلمية التي توثق الكتب والمعلومات.
ستجد أن ما تم لا يقل بل يتفوق بأسلوبه العلمي على ما تقره المناهج العلمية الحديثة الآن عن جمع القرآن ليصل إلينا كما أنزله الله على نبيه أتحدث وعن معجزة حفظه كما وعد الرحمن أتكلم.
قال تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر: 9)
المهمة الكبرى
في التدبر وراء هذه الآية يجب عليك أن تقرأ آلاف الصفحات التي تشرح كيف سخر الله رجال لديهم الهمة والنبوغ والإخلاص حتى تم جمع هذا القرآن ليحفظ عبر تلك العصور ويصل إليك تقرأه كما كان رسول الله يرتله بالوقفة والسكون والمد والتشكيل وطريقة النطق.
يمكن كتابة كتب في جمال وإتقان هذا العمل الذي لا يمكن وصفه إلا بأنه كان معجزة في ذلك الزمن. لكني سأختصر لكم هذا العمل وأبيّن لكم الخطوط العريضة في إتمام هذا الأمر لنستشعر جلل هذه المعجزة.
وبدايةً، قد جمع القرآن في العصور المبكرة للإسلام بأمرين سخّرهما الله له، وهما الحفظ والتدوين، وهو عكس ما يظن البعض أن أول الجمع كان في عهد عثمان فالجمع يكون إما حفظًا في الصدور وإمّا كتابةً في السطور.
وقد سمّى الله هذا الوحي المنزّل بتسميتين كان لها النصيب الأكبر من بين التسميات وهما:
القرآن والكتاب..
إشارة إلى هيئته التي كان عليها وقت نزوله وحفظه بوعي وتفُّهم في الصدور وهيئته التي سيكون عليها بعد اكتمال تدوينه وجمعه.
مراحل جمع القرآن
وقد مرّ القرآن الكريم بثلاث مراحل:
مرحلة في عهد الرسول، وأخرى في عهد أبي بكر، والثالثة في عهد عثمان.
فقد جمع القرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأشرف صلى الله عليه وسلم بنفسه على ذلك بمراجعته مع الصحابة بعد مراجعة جبريل له معه صلى الله عليه وسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه جبريل بالوحي، وشرع في تلاوته عليه، بادره النبي من الحرص قبل أن يفرغ، وتلاه مع تلاوة جبريل إياه، فنهاه الله عن هذا،
وقال: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) وقال هنا: ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) ثم ضمن له تعالى أنه لا بد أن يحفظه ويقرأه، ويجمعه الله في صدره (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)
فالحفظ بدأ منذ كان ينزل على الرسول بإشراف إلهي ومراقبة ومراجعة من جبريل وقد جعل الله النبي صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن مرةً كل عام في شهر رمضان، حتّى إذا كانت السنة التي فيها وفاته عليه الصلاة والسلام، فعرضه مرتين. أي يعرض كل منهما على الآخر قراءته للقرآن.
أي أنه كان يدارسه مع جبريل في كل ليلة من رمضان فيقرأه على الرسول ويسمعه منه والجمع في الصدور هو الحاكم على الجمع المسطور وأول خطوات التدوين. وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على الأمّة حفظ القرآن كاملًا في الصدور بما يبلغ مرتبة التواتر وإلا فهي آثمةٌ كلّها.
ماذا يعني التواتر؟
(المتواتر) هو مصطلح فقهي يُطلق على الحديث الذي ينقله قوم عن قوم، ويكون عددهم كبيرًا بحيث لا يمكنهم التواطؤ على الكذب، ومعنى (النقل بالتواتر) هو أن يكثُرَ نقلُ خبرٍ ما من كثير من الجهات بحيث لا يمكن أن يجتمعوا على الكذب جميعًا.
وهذا منهج في حد ذاته لتحقيق أي خبر أو مقولة أو حديث، هذا غير أنه وجب على كل مسلمٍ منفرد حفظ القرآن بالمقدار الذي يقيم به صلاته.
ومن تسخير الله سبحانه وتعالى لحفظ القرآن أن قد رتّب الأجور العظيمة على حفظه وتلاوته. فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يحثّ أصحابه على حفظه ومداومة النظر فيه، فجعل القرآن مصبّ الاهتمام ومركزه، وجعله معيار التفضيل بين الصحابة.
تدوين الكتبة
فكان صلّى الله عليه وسلم يجعل الإمامة في أقرئهم لكتاب الله ويعقد الراية لأحفظهم أيضًا بل ويقدم في اللحد أكثرهم أخذًا لكتاب الله، غير أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصًا مع حفظ الصحابه له أن يعين كتبة منهم لتدوينه، منهم زيد بن ثابت وأبي بن كعب ومعاوية بن أبي سفيان.
وفي ذلك قال زيد كما جاء في الحديث: «كنت أكتب الوحي عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يملي علي فإذا فرغت قال: اقرأه، فإن كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس».
وهناك نصٌ يصوّر لنا تلك الحالة التي تعقب إنزال الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم،
فقد روى عثمان بن عفّان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا نزل عليه شيء يدعو بعض من كان يكتبه،
فيقول: «ضَعُوا هذا في السورةِ التي يُذْكَر فيها كذا وكذا، وتنَزَلُ عليهِ الآيةُ فيقولُ: ضَعُوا هذه الآيةَ في السورةِ التي يذكرُ فيها كذا وكذا».
أمّا الأدوات التي كان يُكتب فيها، فكانت من الرقاع و الألواح وغيرها من الأدوات التي كانت متاحة في عصره ومع صعوبة الأدوات إلا أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان حريصًا على التدوين.
جمع القرآن في عهد النبي
فجمع القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم كان بمعنى الكتابة والتدوين ولكنها كانت صحف متفرقة عند المدونين من كتاب الوحي والحافظين للقرآن.
والجمع في عهد أبي بكر فهو بالمعنى الحقيقي من الكلمة وهو الجمع في مصحفٍ واحد، والجمع في عهد عثمان فكان بمعنى نسخ المصاحف.
وفِي عَهْدِ أبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ سنة اثني عشر للهجرة (أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعام واحد فقط) بعد أن كثر قتل القرّاء يوم اليمامة. فقد أستشهد سبعون قارئًا من خيار الصحابة عهد أبو بكر وعمر إلى زيد بجمع القرآن.
وقد قال زيد في ذلك.. (فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ -رضي الله عنهما- فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرَهُ «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ» حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ)
زيد بن ثابت
وزيد من كتاب الوحي المخلصين الورعين و كان شابًا نابغًا ولكن هل ترك له الأمر هكذا أم وضعوا منهجًا لجمع القرآن، بل وضعوا منهجًا دقيقًا.
فقد كان اختيار زيد بن ثابت هو أول ضوابط المنهج الذي اتّبعه أبو بكر رضي الله عنه. وقد كان زيدٌ حافظًا لكتاب الله على أكمل ما يكون الحفظ غير ما كان يتميز به من:
– حداثة السن، وفي سن الشباب من القوّة والنشاط والعزيمة ما يتناسب مع هذه المهمّة الجليلة.
– العقل، وهو ما عُرف به رضي الله عنه.
– العدالة والمروءة واستقامة الدين وشدّة الضبط.
– كتابة الوحي، وقد كان رضي الله عنه، من أخصّ كتّاب النبي صلى الله عليه وسلم.
– التقوى والورع، وهذا ما نستنتجه من قوله رضي الله عنه عندما كلف بالأمر:
«فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ»
ولم يكن زيدٌ هو المكلف وحده بهذه المهمّة فقد شركه عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
كما ذكر ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة أن أبا بكر قال لعمر وزيد: «اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه»
ضوابط تدوين القرآن
ومن ضوابط هذا المنهج أيضًا:
– ألا يُقبل من المكتوب إلا ما كان قد كُتب بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم.
– ثم إنّه لا يُقبل حتّى يشهد عليه شاهدان من العدول الثقات.
– وألا يُعتمد على المحفوظ إلّا أن يكون قد تُلقي عن النبي صلّى الله عليه وسلم،
وقد نال هذا العمل إجماع الصحابة رضوان الله عليهم،
وهذا من مميزات جمع أبي بكر رضي الله عنه،
وقد كان جمعه شاملًا للقرآن، معتمدًا على العرضة الأخيرة لرسول الله قبل وفاته وكان مرتب الآيات على الترتيب الذي أقره النبي صلّى الله عليه وسلم.
فماذا عن ما حدث في عهد عثمان؟!
طال الحديث.. نتابع في الحلقة القادمة ان شاء الله لنعرف ما تم في عهد سيدنا عثمان وأسلوبه الذي اعتمد عليه.