
- أبو المساكين - 24 ديسمبر، 2022
- ماري… جميلة من «خواجات اسكندرية» - 20 يونيو، 2022
- غالية يا مصر - 23 يناير، 2021
في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وفي مدينة الإسكندرية التي بناها الإسكندر الأكبر بأثارها العتيقة، قلعة قايتباي، وتمثال الجندي المجهول، والفنار، ولسان السلسلة.
أما عن شواطئها الساحرة فحدث ولا حرج، فقد كانت تمتلئ بأجمل الجميلات، وحين تكون قريبًا من بحرها وتسمع صوت أمواجها كأنها الألحان تكاد أن تسمع صوت الست أم كلثوم وهي تشدو:
الموجة بتجري ورا الموجة
عايزة تطولها
تضمها وتشتكي حالها
من بعد ما طال السفر…
إسكندرية يا وجه العالم الفيروزي بشوارعك النظيفة المضيئة ورائحة بحرك التي تملأ الصدور.
وكنا آنذاك نعيش بأحد الأحياء الراقية «ستانلي»… شارعنا من أجمل الشوارع التي رأتها عيناي، فالأشجار مزروعة على الجانبين، والبيوت مطلة على البحر من عدة جوانب، واللون الأزرق يغطي مساحات كبيرة منها.
كانت غالبية السكان من اليونانيين، أي «الإجريج»، كما كانوا يسمونهم آنذاك.
خليط من المصريين والإيطاليين كلهم سواسية، مساكنهم متشابهة، عاداتهم وتقاليدهم متشابهة، كلهم أصدقاء بل أحباب.
فالأمهات يتزاورن، والجدات يتقابلن عند الغروب يتريضن ويتمشين على الكورنيش، أما الفتيات الجميلات فيجتمعن أسبوعيًا في بيت من البيوت يقمن حفلات سَمَر، يرقصن ويتغنين بأغاني: حليم، وديمس روسوس، وأونريكو ماسياس صاحب الأغنية الشهيرة آنذاك: “J ai quittè mon pays”، والتي ذاع صيتها في ذلك الوقت.
أما الشباب فكانوا يملؤون الشوارع وكأنهم عسكر يحرسوننا ويلبون طلبات من يقصدونهم، ثم يجتمعون في مقهى الحي (شانت كلير)، يلعبون البلياردو والطاولة وغيرها من الألعاب…
وكان يعيش معنا في الشارع شاب أبيض اللون ذو عينين زرقاوتين ممتلئ القامة، إنه الخواجة «يانّي»، كان جميلًا قلبًا وقالبًا.
الخواجة يانّي صديق الجميع
كان الخواجة يانّي صديق لكل الجيران، يعمل في فرقة موسيقية ويعزف علي آلة (الباتري)، ويجيد العزف عليها ويغني بصوته الجميل العذب.
عاش يانّي مع أمه، فأبوه رحل عن دنيانا وهو صغير فلا يكاد يتذكره، وكانت أمه «طنط ماريا»، غاية في الأدب والرقة، وكان يهتم بها جدًا، ولكن أغلب اهتمامه كان لأحبابه وجيرانه يودهم في كل المناسبات، يغني لهم ويسمعهم أجمل الألحان.
كان يانّي يهتم اهتمامًا كبيرًا بنظافة الشارع وزرع الورود وسقي الأشجار، ولم يكن يكتفي بذلك بل كان يشجع بقية الشباب، حتى بات شارعنا من أجمل الشوارع وكانوا يطلقون عليه شارع الحب.
وتزوج أغلب الشباب وكانت جارتنا «مريتسا» تحب يانّي وتتمني أن تتزوجه، لكنه رفض أن يرتبط بأحد، كان كل همه العناية بأمه المريضة والاهتمام بها، فهي تستحق منه كل التضحيات. أما ماريا فلم تكن تدخر وسعًا في السهر عليه وإرضائه.
كنا إذا أصبحنا تلاقينا في ود وحب لا فرق بيننا مسلمين ومسيحيين، حتي جارنا اليهودي جاك، لا أحد يتعالى على الآخر فكلنا نعبد رب واحد.
وكنا إذا جلسنا في خلوة لا نذكر سوى أمالنا وأمانينا في المستقبل القريب.
وكان الحاج محمد هو أعز صديق للخواجة يانّي، لا فرق بينهما نفس الشهامة والرجولة، لا جنس آخر ولا دين آخر، وإذا أذَّن المؤذن بصوته الجميل: الله أكبر الله أكبر صمت الجميع، وإذا دقت أجراس الكنيسة تسمع هذا الدعاء الجميل: فليتقدس اسمك ولتكن مشيئتك خبزنا كفافنا أعطنا اليوم.
وظل يانّي على عاداته الجميلة وظللنا نحن على العهد حتى تدخلت السياسة فمزقت وحدتنا وهاجر كثير منهم، وكم بكينا وكم تقطعت أنياط قلوبنا لماذا ترحلون يا لقسوة الفراق!
هجرة الأحباب
وفي كل مرة يهاجر فيها أحد الأحباب كنا نغني معًا والدموع تسبقنا:
تركت بلدي تركت بحري تركت بيتي.
سألت يانّي:
– متي ستهاجر؟
فابتسم قائلًا:
– لا يا حبيبتي لن أترككم، لن أترك بلدي التي ولدت فيها وسأدفن فيها فتراب أجدادي جزء من هذه الأرض.. لا لا أنا باقي بقاء الإسكندرية.
وكنت قد سافرت مع زوجي إلى بلد عربي يعمل بها، وحين عدت في أجازته السنوية ذهبت ذات يوم كي أتناول الغداء مع صديقاتي في النادي اليوناني الذي يطل مباشرة علي البحر، ورأيته هناك…
نعم.. نعم هذا هو يانّي بلحمه ودمه، إنه أخي وجاري وصديقي، وتذكرت الشارع الجميل شارع الحب، تذكرت البنات الجميلات، تذكرت أمي وأبي وقد رحلوا عن دنيانا، ثم دار هذا الحوار بيننا وكنت أتكلم اليونانية:
– (تي كانس يانّي) أي كيف حالك؟
– كالا.. الحمد لله .. ماشي الحال.
– كيف هي طنط ماريا؟
تحجرت الدموع في عينيه: ماتت ماريا أمه وأخته وسنده، وطنه، سماءه وأرضه.
ماذا أقول أريد أن أحتضنه وأبكي معه.. إنها الحياة!
وأردت أن أغير الحديث الحزين:
– ماذا تعمل الآن؟
– أعمل هنا مدير النادي اليوناني… قالها يانّي وهو ساهم الطرف.
– عندك ولاد يا ماجي؟
– نعم أحمد وتمارا.
– ضروري أشوفهم.
– طبعًا ما إنت خالهم.
– نسيت أسألك عن أخبار الشارع؟
– أخبار متسرش مهما بذلت فيه من جهد وتعبت في تنظيفه لا أحد يعتني به.. أما الجيران أصبحوا لا يتكلمون مع بعض إلا حين يتشاجرون، لا تذهبي ستندمين على ما كان، لقد تغير كل شيء كل شيء.
واتفقنا مع الأصدقاء أن نذهب لزيارة يانّي ومعنا الهدايا والحلوى. وفي يوم عيده التففنا حوله وقلت للأصدقاء: لن أترك الخواجة يانّي فريسة للوحدة والأحزان. سأزوره في بيته في النادي في أي مكان هو فيه، سنعيد أمسياتنا وأيامنا الحلوة سنحاول أن نرد الجميل.
نعم الجميل يا يانّي.. فكم أسعدتنا!
المجموعة القصصية «خواجات اسكندرية»