
- السارد الشارد.. كاتب الوطن ومؤرخه - 27 يناير، 2021
احتفلنا باليوم العالمي للغة العربية، تلك اللغة البحر الذي نال شرف التكريم السماوي أن صارت لغة القرآن الكريم.
الحقيقة أنني اعتدت إحياء هذه الذكرى بمطالعات سريعة لما تأجل من الكتب التي أدخرها لأوقات تسمح بذلك.
وقد كانت الفرصة منايبة للتوقف عند أعمال كاتب كبير تعرفت عليه مؤخرًا في معرض القاهرة الماضي للكتاب، إنه الكاتب الإريتري هاشم محمود.
علامات أعمال هاشم محمود
في أعمال هاشم محمود ستجد نفسك أمام علامتين بارزتين في منتجه الأدبي الغزير:
العلامة الأولى أنه يكتب بلغة عربية سلسة مهضومة وهو بذلك يفتح الباب واسعًا أمام كثيرين ربما لم يعرفوا من قبل عن إريتريا سوى أنها دولة إفريقية فقط ولم ينل كتابها الذين يسطرون أعمالهم بالعربية من الاهتمام على الساحة الثقافية بما يكفي، وهذا ما دفعني إلى كتابة هذا المقال.
يمكنك أن تطالع حب هذا الكاتب للغة العربية وأنت تجدها مصاحبة له في أعماله السردية، ليس كلغة كتابة فقط وإنما كمكون رئيس في صوره،
حيث جسدها في أحد قصص مجموعته «شتاء أسمرا» الصادرة عن روافد 2018 كلغة ربط بين الثقافات المختلفة وهو يسرد قصة الطالب الإفريقي الذي «يتحدث اللغة العربية الفصحى بلحن إفريقي جميل»،
وكيف استطاع بهذه اللغة أن يزيل الحواجز بينه وبين باقي الطلاب ويجمعهم حوله، ثم يأخذك هاشم محمود بهذه الرسالة القوية التي يوجهها-على لسان الطالب الإفريقي-إلى كل من لا يحيطون علمًا بالقارة السمراء وبلدانها وشعوبها بقوله:
«يبدو أنكم لا تعرفون شيئًا عن دول الجوار.. اللغة العربية تدرس في الكثير من الدول الإفريقية.. لذا يأتي اهتمامنا بدراسة القرآن الكريم ضمن أولوياتنا».
اللغة العربية خط رئيسي في أعمال هاشم محمود
هذه الحفاوة والاحتفاء باللغة العربية ستشكل خطًا رئيسيًا في أعمال هاشم محمود التي طالعتها ورقيًا، وكذلك التي استطعت أن أحصل منها على نسخ إلكترونية.
أما العلامة الثانية في أعمال هذا الكاتب الكبير، فهي القضية الوطنية، ذلك الألم أو الأمل الذي يظل الملهم الأول لصاحب كل إبداع.
لكنه في حالة هاشم محمود ليس فقط ملهمًا أو يمثل محطات في منتجه الأدبي، إنه يسيطر على الرجل ويحتل قلمه ويأسر عقله وقريحته فلا يجود إلا بكل ما هو إريتري،
كأنما يقدم هاشم محمود نفسه لذلك العالم ككاتب إريتريا الأول الذي ينقل لنا بالموهبة والحقيقة والخيال الخصب وطنه وقضيته وتاريخه وطموحه.
لن يغيب عن ذهنك في قراءة أعمال هاشم محمود وطنه إريتريا ستشعر تارة أنه مرشد سياحي يخبرك عن الدرر الكامنة في بلاده.. عن جغرافية المكان من مرتفعات وموارد وأنهار.. عن القبيلة والعادات.. عن أدق تفاصيل الحياة اليومية.. عن الطموح والحلم.
مؤرخ الوطن
وستشعر تارة أخرى أن هذا السارد الشارد مؤرخ بامتياز، يحفظ عن ظهر قلب تاريخ بلاده وما مر به من منعطفات وانكسارات وانتصارات،
إذ يعرج بك في أعماله السردية دونما ملل إلى حوادث التاريخ في وطنه ونضال شعبه ضد الاستعمار الإثيوبي الذي عانت منه بلاده،
فتجده مثلًا في مجموعته «الانتحار على أنغام الموسيقى» يقدم لك في ثنايا السرد وجبة تاريخية خفيفة لكنها غنية وهو يخبرك أنه في بداية ثمانينيات القرن الماضي،
كانت الساحة الإريترية في مرحلة هدوء تام بعد الانسحاب الاستراتيجي للتنظيمات الإريترية تحت الضغط العسكري للعدو الإثيوبي.
إن هاشم محمود الذي يعزز في كل عمل يكتبه من مكانته ككاتب لوطنه، يستهدف بأدبه ليس فقط الجيل الحالي ممن يقرأ أعماله، وإنما يسعى ليترك للأجيال القادمة تراث النضال وبشاعة الاستعمار الإثيوبي لإريتريا..
ذلك مبدأه الذي ساقته أحداث قصة «الانتحار على أنغام الموسيقى» برسالة موجزة للبطل وهو يقول لصاحبه:
«ليتنا نتأمل كثيرًا في التاريخ الحديث، وكنا منصفين الآباء والأجداد ولو بالقدر اليسير.. إذا ضيعت أهدافك فحافظ على ذكراها للأجيال حتى لا تنسى وينساها معك الزمان».
رائد الإبداع الإفريقي
إن تلك العلامتين البارزتين في أدب هاشم محمود وفي منتوجه الأدبي (تقوربا-شتاء أسمرا-الطريق إلى آدال-الانتحار على أنغام الموسيقى-عطر البارود)
من شأنهما أن تضعا هذا الكاتب الإريتري محط أنظار المهتمين بالإبداع الإفريقي الذي استطاع هاشم محمود أن يعبر به من إريتريا إلى القاهرة، ومن المحيط إلى الخليج إلى أوروبا حاملًا مسؤولية كاتب وطن بعزيمة مقاتل وقلم موهوب.