السلم تاته تاته
الهدف الذي لم نحققه اليوم، سوف نحققه في المستقبل القريب دون محالة بمزيد من المجهود

- يموت القلب ألف مرة - 12 نوفمبر، 2022
- السلم تاته تاته - 7 أغسطس، 2021
- قطعة جبن وكسرة خبز - 19 سبتمبر، 2020
جلست الأم مع أولادها أمام شاشة التلفاز تتابع مباراة كرة اليد في إطار دورة أولمبياد طوكيو ٢٠٢٠، بين منتخبي مصر وفرنسا.
كان المنتخب المصري قد أدى أداءً رائعًا في مبارياته السابقة حيث هزم فريقي السويد وألمانيا وغيرهم من المنتخبات حتى وصل اليوم إلى مواجهة فريق من أقوى، إن لم يكن أقوى فريق لكرة اليد عالميًا.
كانت المباراه تسير على نحو جيد منذ البدايات حيث ظل يسدد فريق هدف في مرمى خصمه، ليرد عليها خصمه بهدف سريع في المقابل.. سابعة سابعة، ثمانية ثمانية، عشرة، عشرة
إلى أن بدأ الفارق يتسع بعدة أهداف لصالح الفريق الفرنسي.. ظهر على الأم التوتر الشديد، فهي مصرية حتى النخاع وتدرك أن خسارة منتخب مصر في أية رياضة يصيبها ببعض الخيبة، لكنه عادةً ما يكون شعور بالخيبة نابع من حب بل عشق لبلدها قبل أن يكون نابع من عشقها للنجاح والتفوق، خيبة تجاه النتيجة النهائية، وليس على لاعبي المنتخب ذاتهم.. إلا في ما ندر!!
التفتت الأم لتجد أن التوتر ذاته قد ارتسم على وجه ابنها وابنتها.. فطلبت منهم تغيير المحطة ومشاهدة شيء آخر، فهم يقضون أجازتهم القصيرة في الساحل الشمالى ولا داعي إطلاقًا لما يعكر صفوهم ويقلب مزاجهم رأسًا على عقب، لكنهما رفضا تغيير المحطة وأصرا على إنهاء المباراة.
حاولت الأم استدراج ابنها بحيلة ساذجة:
– قوم يا حبيبي، انزل البيسين مع باباك، الجو حلو بره …
وكأغلب الحيل الساذجة، باءت حيلتها بالفشل.
– مش نازل يا ماما… لما الماتش يخلص… متحاوليش يا حاجّة.
هكذا كان يناديها كلما أراد مداعبتها، لترد تلك المداعبة دوماً بضحكة وقبلة طويلة على خده، حتى ابنتها التي لم تظهر اهتماماً حقيقيا في بداية المباراة، التصقت بالأريكة وراحت عيناها تنتقل مع الكرة يميناً ويساراً، ذهاباً وإياباً، حتى انتهت المباراة وحقق المنتخب الفرنسي لكرة اليد فوزًا صعبًا على منتخب مصر بنتيجة ( 27 – 23) ليتأهل إلى المباراة النهائية بدورة الألعاب الأولمبية طوكيو 2020.
حينها، راحت الأم تصفق تصفيقاً حاراً «برافو برافو الله ينور يا رجالة…»
فنظر إليها ابنها نظرة ملؤها التعجب..
– حضرتك احنا خسرنا، لو مش واخدة بالك ، بتصقفي على إيه ومبروك لمين بالظبط !!!
ابتسمت الأم ابتسامها المعهودة كلما همت بإلقاء محاضرة على أولادها «تعالوا نطلع نقعد بره في الهوا وأنا اقولك!»
خرجوا جميعًا إلى الحديقة، ليطل عليهم البحر الهادئ من بعيد..
– قوللي يا حبيبي… المنتخب خسر النهارده صح؟
– آه خسر مش كنتي بتتفرجي معانا يا حاجة.
– كنت بتفرج معاكم آه يا لمض… بس هو خسر بجد !!
– آه والله خسر… اجيبه يحلفلك !!
– مش بقولك لمض… حبيبي أنت متهيألك إنه خسر لكن الحقيقة بقى إنه مخسرش، وعشان كده بصقف له.
– مش فاهم.
– أفهمك، يمكن آه خسر المباراة دي لكن مخسرش في العموم.
– مش فاهم برضه يا حاجة.
– أفهمك، هو منتخب كرة اليد عمره وصل للمرحلة دي في أي بطولة قبل كده؟
– لا.
– طيب عمره كسب ألمانيا والسويد قبل كده؟
– لا.
تمام أوي، عمره أتأهل قبل كده للعب على الميدالية البرونزية زي ما أتأهل من شوية؟
– لا.
– تمام يبقى خسر مباراة آه، لكن مخسرش في العموم. بالعكس ده كسب كتير وكتير أوى كمان.
وراحت الأم تشرح بحماس وجدية، وجهة نظرها لعل رسالتها تصل إلى أولادها:
-تخيلوا معايا سلم طويل مكون من عشر سلمات وقلتلكم اطلعوا السلم ده في خطوة واحدة، في قفزة واحدة،، هينفع، هتقدرو؟ا!
فأجاب الاثنان في آنٍ واحد: – لا طبعًا
– هايل، وحتى لو ممكن، هتكون معجزة الحقيقة، أو ضربة حظ مش أكتر، ولو قدر أي حد يعملها مرة، مش هيقدر يعملها مرة تانية، ولو عملها هيوصل هلكان وتعبان وغالبًا رجله هتتصاب بشكل أو آخر ومَش هتشيله بعدها، والإصابة هتمنعه من إنه يطلع بعد كدة أى سلم تاني في حياته، لأنه اختار يطلعه عافيه فهلوة، مش يطلعه بحرفنة وشطارة، ومش بعيد يقع على جدول رقبته في يوم من الأيام… إيزي كام إيزي جو !!
واسترسلت مبتسمة ابتسامة هادئة:- السلم اتعمل درجات لسبب وجيه؛ عشان نطلعه بالتدريج، حتى من اسمه، واضحة!!نطلعه بالراحة، بتأني، بدون ما نتعافى عالفاضي.
وراحت تشرح أوجه الشبه بين ما شرحته لتوها وبين سلم النجاح: من الصعب بل من المستحيل على أي شخص أياً كان، أن يصعد سلم النجاح والمجد في خطوة واحدة، عليه أن يأخذ السلم من أسفله، من بدايته ويشق طريقه إلى أعلاه خطوة بخطوة، في كل خطوة من تلك الخطوات، يتعلم شيئاً جديداً، يكتسب مهارات جديدة، خبرات عديدة، تكسبه ثقة في نفسه يوماً تلو الآخر.. تؤهله كل تلك المكاسب لخطوته التالية، فيكون كفء لها، قادراً على اجتيازها والتقدم بعدها. هذا ما فعله ويفعله منتخب كرة اليد.
لقد تخطى مرحلة المنتخب المصنف ضعيفاً بين منتخبات العالم، ونجح في أن يخطو أولى خطواته نحو القمة، نجح في أن يصعد بضعة درجات ويجعل العالم يلتفت إلى تقدمه بشكل ملحوظ … فانتصر على فرق أقل ما يقال عنها أنها فرق قوية ومخضرمة، اكتسب في تلك المباريات مهارات جديدة، وتعلم أمورًا لم يكن ليكتسبها أو يتعلمها لو لم يخض التجربة بهذه الجدية والتفاني.
اكتسب ثقة في أن الهدف الذي لم يحققه اليوم، سوف يحققه في المستقبل القريب دون محالة.. فقط ما يلزمه هو المزيد من المجهود، ما يلزمه هو المثابرة على الجد والعمل والإصرار على النجاح والتفوق، ما يلزمه هو مزيد من الدروس والخبرة، فمن سيحصد الذهبية في هذه الدورة لم يحصدها بالتأكيد في بداياته، ومن سيحتل المركز الأول اليوم لم يحتله بالأمس ومن سيحتفي اليوم بالنصر ، احتفى بدروس تعلمها بالأمس.
أما تلك الدموع التي تساقطت حزناً من أعين بعض اللاعبين اليوم، فقد رأتها الأم ذات فائدة عظيمة، فتلك الدموع ما هي إلا دافع إضافي للمضي قدماً وتحقيق النجاح، لتستبدلها تلك العيون يوماً ما بدموع فرحة الانتصار.
استمع إليها أولادها باهتمام كعادتهم، فلطالما احترما وجهة نظرها ومبادئها في الحياة، الشيء الذي كان يملؤها سعادةً وفخرًا، وما إن انتهت من حديثها حتى فاجأها أولادها بعبارة ختامية لم تتوقعها:
– يعني الفريق بيعمل زي ما حضرتك عملتي زمان، ابتديتي سلم نجاحك من تحت خالص يا مامي، وتعبتي لحد ما وصلتي للقمة، وإن شاء الله يوصل هو كمان زيك القمة.
ومع تلك العبارة، جذبت الأم أولادها إلى صدرها واحتضنتهم بقوة؛ لأنها أدركت أن النجاح الحقيقي الذي أحرزته هو نجاحها في أن تكون قدوة ومثل أعلى لأولادها والقمة الحقيقة التي بلغتها هي حب أولادها لها وافتخارهم بها.