«الكمامة الزرقاء» بورتريهات قصصية من أدب النوادر
لوحات أدبية تعبر عن لقطات إنسانية تجمع بين الواقع والخيال

- «الكمامة الزرقاء» بورتريهات قصصية من أدب النوادر - 27 يوليو، 2020
ثمة ما يُدعَى «أدب النوادر» الذي ينتمي للفن القصصي الصحافي ذي اللغة الفصحى البسيطة الخفيفة، والذي تختلط فيه الدراما بالفكاهة والمزاح.
«أسامة ابراهيم» الأديب المبدع والناشر المهتم بالقضايا المجتمعية اليومية، هو أحد حملة لواء هذا النوع من الأدب ليس لنفسه وذاته فحسب، بل هو يشجع شباب الأدباء الصحفيين ممن ينتمون لنفس هذا التيار الأدبي القريب من الجمهور.
يتميز هذا النوع من الأدب بالبساطة والبعد عن التقعر والسفسطة مع الاهتمام بوجود رسائل ضمنية ومغزى من وراء كل قصة. إنه تيار وسطى بين التيار التعبيري الحداثي الذي يخاطب الخاصة من المثقفين المتأملين لما وراء النص، هذا التيار الذي ساد الوسط الثقافي فترة طويلة. وبين نوع من الأدب العامي السطحي الذي بدأ يسود مؤخرًا. وكلا النوعان بدأ الجمهور يتململ منهما لأسباب شتى لا مجال للاستفاضة بشرحها ها هنا.
الأدب القصصي محبب للقارئ
محمود السعدني كان أحد رواد هذا الشكل الأدبي المميز، وإن آثر الفكاهة واتخذ من السياسة رسالة ضمنية رئيسية لكتاباته. أدباء آخرون فضّلوا هذا النمط الأدبي الخفيف لقربه من القارئ العادي، منهم (صبري موسي) و(صبحي الجيار) و(محمد عفيفي) و(أحمد بهجت) وغيرهم من الجيل القديم. بينما تَظهر اليوم طائفة من شباب الصحفيين تَبنّوا هذا الشكل الأدبي المحبب للقراء انتصارًا للبساطة على التقعر والتفلسف والسفسطة.
ولعل أشد ما يميز هذا الشكل القصصي السهل قريب المنال أنه الأصلح للعصر الرقمي ولأنماط الكتابة الإلكترونية التي تؤثِر اللغة الفصحى البسيطة، والمعنى الواضح سهل الهضم.
المجموعة القصصية مثار المقال اسمها: «الكمامة الزرقاء..أغرب الحكايات من قلب المأساة»، معتبرةً حكايات كورونا قطرات تتفصد من منبع المآسى والدراما الإنسانية. ومؤلف هذه المجموعة أسامة إبراهيم كاتب مخضرم له عدد من الإصدارات الأدبية التي تنوعت بين الرواية والقصة والسيرة الذاتية وأدب الرحلات، وهو فوق ذلك إعلامى وناشر يُصدِر المؤلَّفات لأدباء آخرين. بمعنى أنه قبل أن يكون أديبًا، فهو ناقد أدبي بطبيعة الحال؛ إذ يقتضيه عمله أن ينتخب من الأعمال أفضلها وأروعها للنشر.
إن أول ما قد يثير انتباهك من تلك المجموعة القصصية غلافها الذي يتسم بنفس البساطة والجمال، غلاف مريح للنفس مثير للفكر والعين معًا. أمر آخر شديد الوضوح هو الاهتمام الكبير بعناوين القصص، بحيث جاءت في فهرس المحتويات الذي تصدَّر المجموعة، ثم في الغلاف الخلفي، بالإضافة للاهتمام الكبير بنوع الخط البارز الطريف للعناوين الداخلية للقصص.
الأثر البصري للمجموعة القصصية
إنهما أمران رغم بساطتهما يبرزان مدى الاهتمام الذي أولاه الكاتب بما يسميه النقاد “Paratext”، أي هوامش الإصدار وحواشيه؛ تلك التي تخاطب عين القارئ أول ما تخاطب. ذلك هو الأثر البصرى الأول للمجموعة القصصية على المستوى الفني العام، قبل الوجبة القصصية التي لا شك أن التهامها سيكون أسهل وأسرع ما دامت العين استراحت لها.
المجموعة جاءت في نحو مائة وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، وضمَّت ما يقرب من عشرين قصة متقاربة الطول والشكل، موحّدة من حيث مغزاها المشترك من قلب مأساة جائحة كورونا، ومنوّعة من حيث موضوعاتها الاجتماعية التي حاول خلالها كاتبها أن يحيط جمعا بمفارقات فيروس كورونا وظواهرها الاجتماعية والإنسانية.
جاءت أغلب الحكايات في صورة بورتريهات قصصية أو لوحات أدبية تعبر عن لقطات إنسانية تجمع بين الواقع والخيال، وفي منتصف المجموعة قصة من الخيال العلمي تحمل تصورًا مختلفًا لمآلات الوباء بعد أن يقضي على البشرية أو يكاد خلال مائة عام من الآن.
اتسمت المجموعة بمحاولة الاقتراب من اللمسات الإنسانية واللمحات العاطفية في مآسي الجائحة. ومن بين القصص التي غاصت في أعماق هذا البُعد: (لقاء الوداع، الطبيب الغائب، عامل يومية، المترو المفيرس، زفاف في العناية المركزة). بينما جاءت أغلب القصص الأخرى تحمل طابع المفارقة والدهشة.
أغلب القصص أتت بصيغة الغائب باستثناء قصتي: (عائد من الموت) و(عزل إجباري) بصيغة المتكلم، بينما اقتسمت قصة (المريض المتجول) استخدام الضميرين معًا؛ حيث بطل القصة يحكي بصيغة المتكلم لَقطة عن بطلها الآخر بصيغة الغائب.
قصص واقعية مغلفة بالخيال
اهتمت أغلب حكايات المجموعة بالأحداث الخارجية دون التحليل الداخلي أو الاستبطان النفسي، لهذا جاءت الشخصيات ماريونيتية يتحكم فيها الراوي العليم المسيطر على مجريات الأحداث. ولأن القصص مستقاة من الواقع وإن كان بعضها أو أغلبها تخيلي؛ أتت خاضعة لقواعد المنظور خضوعًا تامًا، بحيث واكَب الحدث في القصة نظيره في الحياة دون تحريف أو تعديل أو تهويل أو التواء.
القصص جميعها ذات إيقاع هادئ منطقي وصفي يتخلله الحوار بشكل تلقائي غير مقحم ولا مفتعل. وجاءت خواتيم القصص في أغلبها كاشفة للمفارقات التي تخللتها. إنها خواتيم ابتعدت قليلًا عن طريقة المفاجآت الصاخبة التي يفضلها أصحاب هذا التيار الأدبي، واستعاضت عنها بما يشبه فلاش الكاميرا في لحظة تنوير نهائية.
تلك المجموعة القصصية جديرة بالقراءة، لا يمل المرء من تكرار قراءتها، وهي تعد من بواكير الأعمال الأدبية التي اتخذت من جائحة كورونا موضوعًا لها.
لدىَّ ثقة أن مجموعة «الكمامة الزرقاء» سوف تنال إعجاب وتفاعل كثير من القراء، خاصةً لو أن بعضها نُشر على منصات التواصل الاجتماعى ولو مختصرًا.