إبداع

الكورونا «ليزا» بين الاختلاف وكرسي الاعتراف

بروحِكَ الساميةِ بحُبِّ الله، تصلُ إلى عالمِ الحبِّ الحقيقي، وتعرفُ كيف تُحبُّ البشرَ

هانى داوود

  ابتسامتُها الغامضةُ الحكيمةُ البريئةُ المتحديةُ في الوقت نفسه…

   وكأنها تجمعُ بين كلِّ صفاتِ مراحلِ العمرِ للإنسان، بل وتَسخَر من كل أفعالِ، وهمومِ، وهُراءاتِ، وترهاتِ، وأوهامِ البشريةِ كُلِّها في كافةِ أنحاءِ الأرض..

   وتلك النظرةُ التي تُوزِّعُها على كلِّ مَن يراها أيَّا كانت زاويةُ رُؤيتِه، وكأنها لا تريدُ أن تَظلمَ أحدًا أو تَحرمَهُ من رُؤيتِها بعد أن كَلَّف نَفسَهُ العناءَ والمالَ ليراها.

عشق الفن والتأمل

   ولأني أُحبُّ الفن وأعشقُهُ بكلِّ ألوانِه، أعشقُ دومًا التَّأمُّلَ في اللوحاتِ الفنيةِ بكلِّ مدارسِها. فالريشةُ مثل القلم، أداةُ تعبيرٍ وإبداع، ولكن لها خُصوصيتَها، وعلمَها، ودراستَها، وموهبتَها، مثلُها مثلُ كلِّ أدواتِ الفنِّ والإبداعِ الأخرى.

   ونظرًا لأني أصبحتُ أَقضي أَغلَبَ الوقتِ حبيسَ جدرانِ غرفتي وحوائطِ منزلي، وأعمدةُ بِنايتي، مثلي وكلُّ البشرِ الآن على كوكبِ الأرضِ المسكين؛ الذي صار يَئنُّ من فرطِ ما ابتلعَ في بحارِه، وأنهارِه، وسفوحِه، وجبالِه، ووديانه من دماءٍ سُفِحَت ظُلمًا، أو طمعًا، أو بهتانًا وزورًا، وذنوبٍ ومعاصٍ لم تَخجل أو تَتوانَ عن فعلِ كلِّ المُوبِقات.

   حتى النِّعَم التي لا تُحصَى ولا تُعَد؛ لم تَعُد تُرضِي هذا الكائنَ المغرور «الإنسان»، الذي هو أنا، وأنتَ، وكلُّ هؤلاء البشرِ حاضرًا و ماضيًا، وما أكثرَ دروسِ التاريخ، بل وما أقسى دروسِه، ولكن النسيانَ، والجحودَ، والنكرانَ، هو الإنسان.

   لم أجد فرصةً للخروج… لم تعد هناك أيَّة تجمعات، الكلُّ يخاف، والحكوماتُ أغلقت كلَّ أماكنِ التجمع، ومنها طبعًا المعارض الفنية.

لذا لم يعد أمامي إلا جهاز الكمبيوتر خاصَّتي؛ هذا الصديق اللدود، والحبيب الجلمود بلا لحمٍ ولا دم، لكنه أقربُ الأقربين الآن.

   أخذتُ أتصفَّحُ اللوحاتِ الفنية لكبارِ الفنانين، ولأني عاشقٌ لفنِّ عصرِ النهضة؛ سبحتُ في بحرِ أعمالِ الفنانين في هذا العصر.

   واستَوقفَتني لوحةُ «ليوناردو دافنشي» – المبدع العبقري الذى سبقَ عصرَهُ، المهندس، والفنان، والمخترع العظيم- «الموناليزا» أو «السيدة ليزا»، كما أحبُّ أن أُسَمِّيها…

نظرة عميقة للوحة الموناليزا

   أخذتُ أنظرُ إلى اللوحةِ وأَتأمَّلُها بعمقٍ وكأني أراها لأولِ مرة، تبدو وكأنها تجلسُ في شُرفةٍ، وخلفها مشهدٌ في غايةِ الإبداع، ولكن ما هذه الألوانُ، وكيف خلط هذه الدرجاتِ اللونية بهذه العبقرية وكأنها درجاتُ ألوانٍ ليست في عالمِنا؟ وهذا النهرُ الهادئ المُنسابُ برقةٍ وشاعريةٍ مُرهَفة؟ وهذا الطريقُ المُلتوي كثعبانٍ أحمق، لماذا ينتهي عند النهر؟

   لماذا لم يَنحرفْ قليلًا ليسيرَ بجوارِ النهرِ ويُكملُ مسيرتَه؟

ما معنى أن ينتهي عند هذا النهرِ الهادئ الصامت؟

   خلفيةٌ غامضةُ المعنى من خيالٍ مُبهر، تجلسُ أمامها سيدتي «ليزا» بجسدِها الذي يبدو وكأنه قطعةٌ من شمعِ الخيالِ المُتناهي النعومة، ينبعثُ منه عطرٌ فريدٌ لم أَشُمه من قبل، وكأنه جَمَع عبقَ كلِّ الزهورِ في تركيبةٍ لا يعرفُ أحدٌ سِرَّها…

–        سيدتي «ليزا»!

–        نعم يا صديقي.

–        أتعجَّبُ من جمالِكِ الرائع، رغم اختلافِهِ وتَميُّزِه، وكأنكِ امرأةٌ من عالمٍ آخر.

–        وما هو الاختلاف؟

–        كلُّ نساءِ العالَمِ تهتمُّ برسمِ الحَاجِبَينِ، وإطالة الرموشِ، وتلوينِ الشَّفتَين، أمَّا أنتِ فلم تَهتَمِّي بكلِّ هذا، ومع ذلك الكلُّ مُنبهرٌ بجمالِك.

–        إنكم معشرُ الرجالِ من البشرِ تفكرون بعقلٍ جمعيٍ مُقلدٍ، لم يَعُد كلٌّ منكم يَتفكَّرُ، ويتأمَّلُ، ويشعرُ بالجمالِ من خلالِ نفسِه، بل من خلالِ الآخرين، لهذا ستظلون دومًا في شقاء، ولن يرضَى أحدٌ منكم أبدًا بما قَسمَه اللهُ له.

–        صدقتِ يا سيدتي!

–        لماذا تناديني سيدتي؟ أنا «ليزا»، ألا تُحِبُني؟

–        نعم أُحبُّكِ طبعًا، ولكن لن أصلَ إليكِ أبدًا، أنتِ غايتي المستحيلة، لذا فأنتِ سيدتي دائمًا.

–        من قال لك أني غايةٌ مستحيلة بالنسبةِ لك؟

–        أنتِ في زمانٍ آخر، وبُعدٍ آخر، ومكانٍ بعيدٍ جدًا.

–        الزمان؟ والمكان؟ أنتم من صنعتُم هذه الأبعاد والمعاني.

–        كيف؟ تلك هي الحقيقة.

–        الحقيقةُ أن الغايةَ بلا زمانٍ ولا مكان، و ليس أمامها مستحيل، كن مؤمنًا؛ فالله خلقك لِتعبُرَ المكانية والزمانية بروحِكَ الساميةِ بحُبِّ الله، تصلُ إلى عالمِ الحبِّ الحقيقي، وتعرفُ كيف تُحبُّ البشرَ وكيف يكون الحب…

الابتسامة الغامضة

   أنا أبتسمُ للجميعِ في آنٍ واحد، لكنهم حتى الآن لا يفهمون لماذا أفعل ذلك؟

   أريدُهم أن يفهموا معنى الحبِّ الحقيقي، ليتعلَّموا حبَّ اللهِ سبحانه وتعالى، ومن هنا بدايةُ الإيمانُ الحقيقي، من هنا يبدأ الإنسانُ رحلةَ الوصولِ إلى الحقيقة، لا زمانَ ولا مكانَ في الحقيقة، بل خلودٌ وسعادةٌ أبديَّة.

–        من أنتِ يا «ليزا»؟ يقولون أنكِ مريم المجدلية.

–        أنا من تعلَّمت الحقيقةَ منها، أنا لستُ إلا… «ليزا».

–        هل أنا أحمقٌ يا «ليزا»؟

–        كلُّ البشرِ حمقى، لكن الله رغمَ كلِّ أفعالِكم رحيمٌ بكم، أرسلَ لكم رسالةً فيها كلُّ العِبَرِ والعظات، بل وفيها الرحمةُ والخيرُ كلُّه.

   كنتم تَتهكَّمون على بعضِكُمُ البعض، وعلى من ترتدي النقابَ من نسائكم، وتَكذِبون، وتَخدَعون، وتغتابون، وتَسُبُّون، وتَصرُخون، فألبسَكُمُ اللهُ نقابًا خَشيةَ الموت…

   كنتم تَتحرَّشون بنسائكم، وتَزنون، وتَغتصبون، وحلَّلتُم ما حَرَّم الله، فَحرَمكُمُ اللهُ سبحانه حتى من احتضانِ أبنائكم وأحبائكم…

   كنتم تعتدون على ضعفائكم، وتقتلون مُعارضيكم، وتَبطِشون بأيديكم، فألبَسكُمُ اللهُ قُفازًا لتخافونَ حتى من لطمِ مَن يَسُبَّكم.

   كلُّ هذا لعلكم تَتفكَّرون، وتعقلون، وتعودون إلى الله، وتهتدون.

   فَتحتُ عَينيَّ وأنا أنتفضُ على صوتِ رنينِ الهاتفِ يُوقظُني من غَفوتي، ونظرتُ أمامي…

   كانت لوحةُ «الموناليزا» لا تزالُ قابعةً على شاشةِ جِهازي الكمبيوتري تبتسمُ وتتأمَّلُني، وكأنها تَسألُني: وماذا بعد؟

الذكرى تنفع المؤمنين

فتذكَّرتُ قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ في سورةِ الحديد:

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

                                         صدق الله العظيم

   وسَقطَت من عيني دمعةٌ ساخنةٌ، شعرتُ وكأنها غسلت نفسي المُتعَبة بالندمِ والهموم.

   وقلتُ في نفسي وكأنني أُخاطبُها وأُخاطبُ كلَّ البشر:

   حانَ الوقتُ الآن… حانَ الوقتُ لِنَبذِ الخلاف، و الجلوسِ على كُرسي الاعتراف.

من «حكايات داودية»

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى