إبداع

النظرة الأخيرة

الرمزية والنص المضمر يستفز المتلقي للمتابعة

خالد مهدي الشمري
قصص تنشر اليوم وتمر علينا لكننا قد نعجب بقصة ولا نعجب بأخرى والسبب يعود إلى مجموعة مميزات تجعل القصة قريبة إلى نفوسنا.
اللغة وبناء القصة اللغوي وكذلك السرد القصصي ومن ثمة الحكاية وترابطها وحبكتها وللعنوان الأهمية الكبرى حيث في القصة دائمًا، العنوان يلعب دورًا مهمًا في جمالية القصة وأيضًا النهاية التي لها ثقلها الكبير، وهناك نهايات مفتوحة وأخرى مغلقة أو منتهية، وهي النهاية التي ينتهي فيها الحدث وكلما كانت صادمة وفيها ادهاش كلما زادت جمالية القصة .
في قصة «النظرة الاخيرة» اختارت القاصة سهام الجزار، عنوانًا شاملًا للقصة ومعرفًا لها ولا يكتمل العنوان إلا بقراءة القصة كاملة، وهذا يعد للقاصة لأنها جعلتنا نترقب ما هي هذه النظرة ولما هي الأخيرة.
جملة المدخل جملة قصصية جميلة ومتكاملة حين قالت: كنت أتحسس الماء كلما ملأت الوعاء لأنثره عليها فلا يكون باردًا أو ساخنًا جدًا حتى لا يؤذيها.

الرمزية في «النظرة الأخيرة» تصنع مادة الإدهاش

اشتغلت القاصة منذ الحروف الأولى للقصة بالرمزية العالية والنص المضمر والتي تريد الإخبار عنه لكن في سياق القص القادم، لذلك هي نجحت في استفزاز المتلقي وصنع المادة القابلة للإدهاش.
في جملة (بدأت أغسل لها شعرها وحريصة كل الحرص ألا يلامس الصابون عينيها)، نحن في نص قابل للتأويل لأننا نعتقد أنها تغسل لشخص أمامها أعتقدت أنها ابنتها الصغيرة، ولم يخطر ببالي أو شكًا حتى أنها لأمها المتوفية.
حتى حينما وصفت ذلك الوجه الشارد وعلامات الرضا والقبول ثم كيف ألبستها الثياب البيضاء.
جعلتنا نتصور تلك الأم التي تعد ابنتها ليلة زواجها والعلامات التي جعلت النص يقول ذلك الثوب الأبيض والغسل والتعطير بعطر فواح. وكما هذه الجملة التي تدل أيضًا على ذلك (ربما ترى بيتها الجديد وتتفقده، يقيني أنها تراه جميلًا بل أجمل مما كانت تتخيل).
جمال السرد المترابط والمرصوص بشكل جميل جعل المتلقي يتابع سير أحداث القصة بشغف حتى وصول الجملة التلميحية (ينتظرنها المرحبون بها على أحر الشوق ليؤنسوا وحدتها فهم خير أنيس).
جعلتنا نتساءل كيف تُزف العروس إلى بيتها الجديد وهناك مرحبون يؤنسوا وحدتها؟ عن أي وحدة تتحدث القاصة أو الراوي الذي اتخذ من صيغة الراوي العليم صيغة للسرد القصصي الجميل.
(بعد أن أسدلت عليه آخر أثوابها البيضاء. وتركتها ومشيت فكيف لي أن أراها وهم يهيلوا عليها التراب في بيتها). أنهت قصتها القاصة سهام، بجمالية واحترافية كبيرة حيث كشفت جميع الخيوط حيث كانت تودع ميت في لحظاته الأخيرة.
ويُعد هذا من النهايات المفتوحة أيضًا بشكل متقن، فممكن أن يكون حدث آخر أو وصف بعد التوديع، لكن القاصة أنهت الجملة بشكل مقبول لدى المتلقي لتكون قصة جميلة ومؤثرة جدًا.

«النظرة الأخيرة»

كنت أتحسس الماء كلما ملأت الوعاء لأنثره عليها فلا يكون باردًا أو ساخنًا جدًا حتى لا يؤذيها، بدأت أغسل لها شعرها وحريصة كل الحرص ألا يلامس الصابون عينيها، ثم أكملت المهمة في أن أغسل كامل جسدها وهي تساعدني، فعندما أرفع ذراعها لا تقاومني، أجدها تتقبل ذلك والابتسامة أراها هادئة على شفتيها.
وبعد الانتهاء جففتها وبدأت في أن ألبسها أثوابها الناصعة البياض، ونثرت عليها العطر الذي انتشرت رائحته في الأجواء مختلطة بعطر يشبه المسك كان ينبعث منها وهي نائمة تلك النومة الملائكية. أحكمت زينتها ونظرت لوجهها فلم أجد عليه سوى تلك الابتسامة الهادئة التي تشير إلى رضاها لما فعلته معها وكأنها تشكرني وتثني على العمل.
انتظرت منها أن تقولها وأسمع صوتها لكن دون جدوى، فاكتفيت بتلك الابتسامة المعبرة.. فهي عروس الليلة، ترى فيم تكون شاردة! ربما ترى بيتها الجديد وتتفقده، يقيني أنها تراه جميلًا بل أجمل مما كانت تتخيل، فهي التي أعدته بيديها وتعبت وتحملت العناء والشقاء ليكون بهذه الروعة والجمال، وقد يكون ذلك هو سر ابتسامتها ورضاها، ولا يكون السر هو رضاها عما فعلته أنا، لا يهم طالما هي سعيدة وهذا ما أتمناه، أن تكون حياتها الآتية مريحة وأجمل من الماضية بكل تعبها وشقائها.
تُزف العروس إلى ما يسعدها، ينتظرنها المرحبون بها على أحر الشوق ليؤنسوا وحدتها فهم خير أنيس. نظرت إليها النظرة الأخيرة وقبَّلت وجنتها وما شعرت إلا ودموعي منهمرة على وجهها الذي أضاءه شعاع خبأته بعد أن أسدلت عليه آخر أثوابها البيضاء.
وتركتها ومشيت فكيف لي أن أراها وهم يهيلوا عليها التراب في بيتها الجديد، وأقسمت أن تكون هذه المرة الأخيرة التي أفعل فيها ذلك حتى يظل طيفها يأتيني في منامي محلقًا بشعاع من ضوء لا ينازعه طيف آخر.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى