إبداع

بردان يا أبي

قصة قصيرة من وحي القصف على غزة

أمينة الزغبي
Latest posts by أمينة الزغبي (see all)

قالت له مندوبة الأونروا:

ــ كفى يا صغير وهيا معي كي نذهب لمكانٍ آمن.

قال بحروفه المتآكلة كأسنانه الصغيرة باكيًا:

ــ كيف أترك الأمان وأذهب معكِ؟

ــ لكن هذا المكان معرض للضربِ مرة ثانية، أنتَ هنا في خطر ولست في أمان.

أشارت إلى رجال الصليب الأحمر الفلسطيني قائلة:

ــ إذن أرفعوه برفق وهيا بنا.

ارتمي الصغير فوق رأس والده المسجى على الأرض، مُتشح بالأبيض الذي تلطخ بدمائه من الصدرِ إلى الأقدامِ، يصرخ بهم قائلًا:

ــ قلت لكِ هنا الأمان، أشعر به وأنا أحتضنه، إنه أبي، وصديقي، ليس لي غيره في الدنيا، لا تأخذوه مني، كيف أعيش بدونك يا أبي، أفتحوا هذا القماش، لفوني معه، أنا بردان يا أبي، أرتعش بدون حضنك، لا تتركنِ وحدي، خذني معك، خذني معك.

قالت له المندوبة وهي تُجفف دموعها:

ــ حبيبي كن شجاعًا ولا تخف، لن نتركك أبدًا، ستذهب إلى مكان آمن به أطفال كثيرون مثلك، تأكل، وتشرب، وتلعب معهم.

رفع الصغير رأسه من فوق القماش المُبلل بدموعه وهو ينشج قائلًا:

 ــ أنني شجاع فاسمي ليث، وقد قال لي أبي بالأمس: (أن ليث يعني أسد، وقد أخترته لك حتى تكون شجاعًا لتدافع عن الأرض)، لكن كيف سيكبر الليث ويصير شجاعًا يدافع عن بلاده، دون حنان أبيه؟ أعرف جيدًا أنه الآن قد ارتقي مع أمي، التي جئنا كي نطمئن عليها في المشفى، فقد أصيبت بالأمس بشظية في رقبتها، من جراء القصف على منزلنا في غزة، وكانت تتلقى العلاج في مستشفى المعمدان، كانت ترقدُ على السرير يتدلى من أنفها وفمها خراطيم رفيعة، موصولة بحامل به أكياس، وجهاز له شاشة صغيرة، قال لي والدي: (غدًا ستخرج أمكَ ونكون معًا ولا تفارقنا أبدًا).. كانت أمي تنظر إلينا ودموعها تسيل فوق وجنتيها دون كلام، رفعني والدي كي أقبلها في جبينها، وقال لي: (تعالي يا ليث أبحث لك عن زجاجة ماء نظيفة، وشيء تأكله). قبّلَ أبي جبين أمي وقال لها: (لن أتأخر عليكِ يا حبيبتي) وهي تُجيبه بنظراتها فقط.. تبسَّمت لي وأنا ألوح لها بيدي.

قبل أن نصل إلى باب المشفى الخارجي، دوي انفجار، اهتزت الأرض تحت أقدامنا، انهارت الحوائط خلفنا، حينما وصلنا إلى باب المشفى عدوًا؛ دفعني والدي خارجه وهو يصرخ في وجهي منزعجًا:

(اجري يا ليث، بسرعة ابتعد، ابتعد يا ولدي، سأعود لأحمل والدتك للخارج، استودعتك الله يا ولدي).

 أمسك بيدي شاب لا أعرفه وجذبني بعيدًا عن المشفى وأنا أصرخ وأنادي:

أبي.. أبي.. دون مُجيب!

 ظللت أبكي وأنادي على والدايّ طيلة الليل وسط المكلومين مثلي حتى غلبني النعاس على الرصيف المقابل.. مع نور الصباح فتحت عيناي أتلفتُ حولي باكيًا، أسرعت أنظر في المحتشدين أمامي، أبحث عن أبي وأمي التي ذهب ليحضرها، دون جدوى، رأيتُ الشاب الذي أخرجني يقف أمام الأجساد المسجاة على الأرض، يلتحفون القماش الأبيض، يكشف ُوجوهم واحدًا تلو الآخر، صرخت وأنا أري وجه أبي من بينهم، ارتميت عليه أبكي وأسأله عن أمي، ربتت على كتفي امرأة مُصابة وهي تقول باكية:

ــ مسكين يا صغير، والدتك لم يستطيعوا إخراجها من تحت الأنقاض، أنا الممرضة التي حاولت منع والدك من الدخول إليها، لكنه أفلت ذراعه من يدي، ففصل بيننا السقف المنهار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى