
- أبيض وأسود - 22 فبراير، 2022
- البطل المفقود - 9 أكتوبر، 2021
- حصان طروادة - 28 أغسطس، 2021
«عندما يحاول الصمت أن يدفن صخبًا فما هو إلا بركانًا خامدًا يوشك أن ينفجر»
قالها الدكتور منهيًا كلامه الذي لم يفهم أحد منهما شيء، فنظر الضابط إليه وقال:- يا دكتور لم أفهم شيء مما تقول ما هو الشيء الخطير الذي تريد أن تبلغ عنه؟
بعيون خائفة رفع الدكتور عينيه إلى الضابط وقال :- لقد اختفى، لم أكن أصدق ما كتبه لكنه بالفعل قد اختفى، تبخَّر وهذا في حد ذاته هو مَكمن الخطورة.
نظر الضابط إلى معاونه الذي كان واقفًا يستمع معه إلى كلام هذا الدكتور وقال له:- يبدو أنَّ الدكتور في حاجة إلى كوب من الليمون، ثم أخرج سيجارة وأشعلها ورشف من فنجان القهوة الذي برَدَ أمامه وظهر على وجهه امتعاضًا من المرارة التي سكبتها الرشفة في فمه، واستطرد: اطلب لي فنجان قهوة آخر سكر زيادة لا أحب القهوة السادة وأزاح الفنجان ونظرَ إلى الطبيب الذي أصر على مقابلته هذا الصباح لأمر خطير ووجه إليه الكلام:
-إذًا مريضك اختفى من المستشفى هذا الصباح، لا أرى وجه للخطورة في هذا الأمر ربما لم يرُق له العلاج، ربما لديه أمر هام، هناك مليون سبب يجعل أي مريض يترك المستشفى ويخرج منها دون أن يخبر أحد، فهل حالته خطيرة وأنت خائف عليه؟
رد الدكتور:- نعم حالته خطيرة جدًا وإلا لما كنت جئت إليكم، الوضع قد يكون سيئًا للغاية!
قال الظابط :- يبدو أنك من الأطباء الذين يهتمون بمرضاهم بشكل مبالغ فيه لكن هذا أمرٌ طيبٌ، نفتقد إلى هذا النوع من الأطباء هذه الأيام، حسنًا… اشرح لي الموضوع من البداية.
تناول الدكتور كوب الليمون الذي وضعه المعاون أمامه ونظر إلى الظابط وهو يرشف القهوة بتلذذ هذه المرة ثم نظر إلى اللا شيء كمن يستدعي الأحداث ويرتبها في سياقها حتى يكون كلامه واضحًا لهما:
لم يكن يتكلم ظننته أخرس كان كتمثال من حجر لا يبدو على وجهه أي تعبير وكانت ملامحه متجمدة، قالوا لي أنهم وجدوه هكذا هائمًا في الشوارع، يبدو من منظره أنه إنسان مثقف ذو شأن، ليس متشردًا ولا فاقدًا للأهلية، ظننته مصدومًا أو مكتئبًا. تعاطفت معه، حاولت معه كثيرًا أن أعرف من هو ولماذا هو هكذا صامتًا لا يتكلم مثل تمثال من حجر، أخضعته لكثير من الفحوصات والتحاليل، لم يكن يعاني من شيء ولم يسأل عنه أحد ولم يطلب أن يتصل بأحد.
بدأ الضابط ومعاونه الانتباه لكلام الدكتور الذي ظل يتكلم دون أن ينظر إليهما..
حتى دخلت يومًا عليه فوجدته يرسم على ورقة أشكالًا غريبة فتخيلت الرجل فنانًا تشكيليًا فوفرت له أقلامًا وأوراقًا لعلّي أفهم مما يرسم شيئًا. وفي اليوم التالي رأيته يرسم حذاءً غريب الشكل لم أرى له مثيل في تصميمه، لكن الغريب أنني لمحت الحذاء في اليوم التالي بغرفته لا أدري من أين جاء؟!
فقال الضابط متعجبًا:- ماذا تعني هل ظهر الحذاء فجأة؟!
رد الدكتور:- نعم ظهر فجأة لم يخرج هو ولم يأتِ إليه أحد.
فقال الضابط: وماذا يعني هذا وما الغريب في هذا الحذاء؟!
قال الدكتور:- الغريب أنه ليس حذاءً بالمعني الذي نفهمه.
فقال الضابط:- لا أفهم شيء وماذا بعد؟
استمر هذا الأمر يوميًا وأنا أحاول أن أجعله يتكلم رسم حقيبة لها منظر الصندوق، فإذا بي في اليوم التالي أجد الحقيبة على المنضدة
فقال الضابط:- أنت تتكلم عن ساحر إذًا أو عفريت! وماذا بعد يا دكتور؟
رد الدكتور وهو هذه المرة يوجه نظره للضابط:- حتى رأيته يرسم سيفًا غريبًا له منظر أثري، فإذا بي أرى السيف معلقًا على الحائط بغرفته مغمدًا في جرابه، زاد توتري وخوفي منه، سألته في غضب: من أنت؟! نظر إليّ في تحدٍ واضح ولم يرد ثم نظر إلى الأوراق فرأيت عدة وجوه واضحة مرسومة بدقة كأنها بورتريهات لأشخاص حقيقيين، وهناك اسم غريب مكتوب في إحدى الأوراق.
سأل الضابط في لهفة: ما الاسم؟!
فرد الدكتور: «بيرسيوس»
قال الضابط: وماذا يعني هذا؟ هل هو اسم أم مصطلح أم كلمة أجنبية؟
قال الدكتور:- لم أفهم عندما قرأتها أول مرة، لكن الوجوه كانت تبدو مألوفة لي كأنها شخصيات عامة إلا وجه المرأة لم يكن مألوفًا لي صورت هذه الوجوه بهاتفي وعرضتهم على بعض من أعرفهم، وكانت المفاجأة أن زوجتي كانت تعرفها جيدًا، فهي أمرأة ذات نفوذ وشخصية قوية زوجها اختفى في ظروف غامضة لا أحد يعرف أين ذهب؟
البعض يقول أنه تم اعتقاله لأنه كان معارضًا، والبعض يقول أنه ترك البلاد ورحل بعيدًا بعد أن تم منعه من تدريس التاريخ حيث كان أستاذً في التاريخ وكان كثير الكلام، والبعض يقول أنه انتحر بسبب زوجته المستبدة المسيطرة بشخصيتها القوية على شخصيته الضعيفة المستكينة، وآخرون يقولون أنه أصبح غريب الأطوار بعد زيارته لبعض المعابد الإغريقية كمشرف على بحث في تاريخ اليونان، ويقولون ربما تلبسته الشياطين أو أغرمت به إحدى الجنيات واختطفته لعالمها. لم يكن يعلم أحد أن هذا الرجل محجوزًا عندي.
فقال الضابط:- تقصد أن الرجل هو ذلك المريض؟
فهز الدكتور رأسه بالإيجاب.
فقال الضابط: إذًا ما معنى «بيرسيوس»؟
رد الدكتور:- تقول الأسطورة اليونانية أن «برسيوس» هو من قتل «ميدوسا»
قضَّب الضابط جبينه ونظر في استعجاب إلى الدكتور الذي بدأ يشرح له قائلًا:-
«ميدوسا»، هي إحدى أخوات ثلاث معروفات باسم «الجورجونات»، في الأساطير اليونانية وكانت لها العديد من المميزات الشخصية مثل جمال خُصل الشعر، وحسب الأسطورة تقول: أن الإله «نيتون »وقع في حبها .
وكان يبادلها الغرام في معبد «مينيرفا» مما يعني أنهما انتهكا حُرمة المعبد، مما تسبب في سخط الإلهة «مينيرفا» وقامت بتحويل خُصل شعر «ميدوسا» التي أُعجب بها «نيتون» إلى أفاعي، وأصبح لها القدرة على تحًويل من تنظر إليه إلى حجر لا يتكلم وكأنه قد فقد الحياة، الوحيد الذي استطاع أن يقتل «ميدوسا» هو «بيرسيوس» بعد أن أعدَّ لذلك عُدته. وكانت تلك العُدة هي سيف قوي وحاد بالدرجة الكافية لكي يقتلها من ضربة واحدة حتى لا تتمكن من القيام، وتوقعه في مصيدتها. وحذاء الإله «هرمس» الذي يستطيع بواسطته الطيران. وخوذة أخو كبير آلهة الإغريق «هادس» التي تغمره بالظلام كي لا تراه «ميدوسا» أثناء دخوله وخروجه، والحقيبة التي يحمل فيها رأسها بحيث لا تؤذيه ولا تؤذي أحدًا آخر من قوة عينيها.
نظر الضابط إلى الدكتور وهو يشكّك في كلامه:- لكن هذه تخاريف يا دكتور!
قال الدكتور :- ليس الأمر كله خيال، فالخيال هو ما يشرح الواقع الذي لا نستطيع أن نتكلم به الخيال هي صورة لما يُحرم منه الإنسان في واقعه. «ميدوسا» ترمز إلى كل من يستطيع تشويه النفس الإنسانية وقهر الذات وتحويلها إلى مسخ و تحجير الروح بفعل الرعب، وعندما قطع «بيرسيوس» رأس «ميدوسا» أدى ذلك لولادة «خريساور»، رمز الروحانية، و”بيغاسوس»، رمز التسامي.
وهذا المريض كان قد تحول إلى حجر بالفعل قد تكون زوجته هي «ميدوسا» وقد يكون مديره في العمل، وربما يكون كل هؤلاء الذين رسم وجوههم وكان المريض ينتظر أن يموت الخيال الفاسد حتى يُولد من جديد الخيال الإبداعي وتتحرر الروحانية والسمو ويعود إلى حياته حرًا، لقد كان يُعد العُدة لقطع رأس «ميدوسا». رسم كل ما يلزمه لفعل ذلك وحصل عليه لم يكن ينقصه إلا الخوذة، وكتب ذات يوم «سوف يختفي بيرسيوس، فإن بيرسيوس ينتظر الخوذة التي تمكّنه من رأس ميدوسا دون أن تؤذيه» وبالفعل اختفى “بيرسيوس» هذا الصباح!
نظر الضابط إلى الدكتور مُتشكِّكًا وقال:- تهزأ بي يا دكتور ما هذه الخرافات التي تقولها؟ من هي «ميدوسا» التي اختفي «بيرسيوس» ليقطع رأسها بالسيف؟!
أخرج الدكتور أوراقًا من جيبه وصور بورتريهات مختلفة لأشخاص، ونشرها أمام الضابط.
فغرَ الضابط فاه قائلًا:- تقصد أنه ينوي قتل هؤلاء؟
هزَّ الدكتور رأسه بالإيجاب.
انتفض الضابط وهرع يعلن حالة الطوارئ ويُجري اتصالات هنا وهناك، وأخذ اسم الدكتور وعنوانه، وعنوان المستشفى قبل أن يدعه يخرج..
خرج الدكتور بعد أن أثار عاصفة في الأجواء، خرج وشعور بالراحة ينسكب في نفسه وهو يرى هذه العاصفة التي سبَّبها بلاغه وهذا القلق والتوتر الذي ملأ الأجواء.
اتجه الضابط بعد عدة ساعات إلى المستشفى ليقوم بعمل التحقيقات اللازمة، وعندما وصل إلى مستشفى الأمراض النفسة والعصبية طلب مقابلة المدير الذي تعجَّب من الأمر برُمته، وعندما طلب مقابلة الدكتور صاحب البلاغ رد عليه مدير المستشفى:- ليس لدينا دكتور بهذا الاسم.
قال الضابط: كيف؟ لقد أكد لنا أنه يعمل في هذه المستشفى منذ زمن!
فرد المدير: أؤكد أنه ليس لدينا طبيبًا بهذا الاسم.
فأمر الضابط بإرسال صورة لبطاقة هذا الطبيب لعرضها علي مدير المستشفى، وعندما رأى المدير صورة البطاقة على شاشة موبايل الضابط ابتسم قائلًا:- تقصد «بيرسيوس»؟
أشهر مريض فصام دخل المستشفي، صحيح كان يعمل طبيبًا قبل أن تظهر عليه أعراض الفصام، لكنه شفي منذ وقت طويل وخرج ثم اختفى فجأة ولا يعلم أحد عنه شيئًا الآن!