إبداع

بكارة العشق

الحب لا يعوزه مال ولا سلطان، وإنما يُلْهِبه قلبان يخفقان

حمدي شفيق
Latest posts by حمدي شفيق (see all)

غادَرَتْ أرضَ الطفولة تسرِقُها الأيَّامُ رَغْماً عنها، شبَّتْ بسرعة، طاوَلَ عودُها كَرْمَةَ الشبابِ؛ فانداحَتْ عنه نضارةٌ تُسْكِرُ العُيُون. أحاسيسُ جديدة راحتْ تُدَغْدِغُ رُوحَها التي تُشْبِهُ كثيراً زَهْرةَ اليَاسَمين، تكَعَّبَ صدرُها، وما تكعَّبتْ أحلامُها.!

لا تزالُ أحلامُ الطفولة تراودُها على رؤيةِ الملائكة، وقد سمعتْ عنهم كثيراً من والديها،  لكنَّ شعوراً غامضاً لم تألفْهُ من قبل، أقبلَ يدقُّ على بابِ قلبِها، كلَّما تذكَّرَتْ أوَّلَ مرَّةٍ التقَتْ عيناها علاءَ الدين ابنَ خالتِها القادمَ إلى القاهرةِ من الصَّعيد، لاستلامِ وظيفتِهِ الجديدة.

شابٌّ أسمر، طويلُ القامة، أجعدُ الشَّعْرِ، ذوعينينِ مُبَاغِتتينِ، وشخصيةٍ تشي بكثيرٍ من الغموض، فإذا ابتسَمَ .. أشرقتِ الشمسُ فجأةً في عَتْمَةِ الّليلِ البَهِيم.!

 

أحلام الطفولة وملاك الحب

كانتْ بثينةُ توقِنُ أنَّ للحُبِّ ملاكاً أبيض، أو أنَّ الحب نفسَهُ ملاكٌ لدَيْهِ كلُّ الأسرار، وكم تمنَّتْ ألّوِ التَقَتْهُ في أحلامِها؛ فتُسْمِعه سُؤْلَهَا.

وحينَ اكتمَلَ القمرُ، ودلَفَتْ أنوارُهُ من نافذتِها، تُدَاعِبُ وجْهَاً مِنْ سُلالتِهِ؛ أغمضَتْ عينيها، وحَرَصَتْ أنْ تُبْقِيَ كفّيْها مفتوحتينِ! بينما تسَلّلَتْ نسْمةٌ لَعُوبٌ، تدفَعُ خُصْلَةً من شَعْرِها الكَسْتَنَائِيّ، فتغطّي بها عينيها المسافرتينِ إلى مرافِئ الأحلام، ثمَّ تأتي نسْمةٌ أخرى من الاتجاهِ الآخر يبعثُ بها جهازُ التكييفِ الذي تركَتْهُ دائراً، فترفعُ الخُصْلَةَ عن عينيها، وتعيدُها سيرَتَها الأولى.

تسارعتْ وتيرةُ صراعِ النسْمتينِ على ساحةِ وَجْنتيها المسالمتين، بينما هي في عَالَمِها البعيد، على موْعِدٍ مع الحُلْمِ المُنتظر.!

ظهرَ لها ملاكٌ أبيضُ ذو جَناحَيْنِ عظيمين، وبدا لها كأنَّهُ نورٌ تشَكَّل،  شهِقَتْ، ابتَلَعَتْ رِيقَهَا، تمَنَّتْ أنْ يهْدَأ نبضُ قَلْبِها المُتسَارِع، ثمَّ سألتْهُ في لهفةِ المستغيث، ولمَّا تستجْمِعْ سُؤْلَها بعد: فيكَ وبك، إليكَ ومنك؟!

 

لغة حيَّرت العشاق

قال: فيكَ وبك، إليكَ ومنك؟!  أيُّ لغةٍ تلك؟  قالت: هي أبْجَدِيَّتُكَ التي حيَّرتِ العُشّاق. قال: هلّا أفصَحْتِ قالت: لِمَ العُشَّاقُ مُكَلَّبُونَ فيك، مُكَبَّلُون بك، تَوَّاقُون إليك، مُلْتَاعُونَ منك؟!

قال: هذا أنا، وما جَنَيْتُ على أحد.! مَنْ قُدِّرْتُ لهُ ذاق، و[مَنْ ذاقَ عَرَف، ومَنْ عَرَفَ اغْتَرَف]، ثمَّ لا يلبثُ أنْ يُعاني.! قالت: ولماذا نُعانِي في الحُبّ؟ قال: المُحِبُّ مُلْتاعٌ إذا اقْتَرَب، مُلْتاعٌ إذا ابتَعَد، فهو مُلْتاعٌ أبَداً!، لا شيْءَ في الوجودِ مُتْعَتُهُ في لوْعَتِهِ سِوى الحُبّ.!

قالت: خُذْنِي إلى دُنْيا العُشَّاق. قال: إنْ فَعْلتُ، فلا تسأليني عن شيء. قالت ومَنْ يُجيبُنِي إذنْ؟ قال: قلبُكِ سيُجيبُ عَنِّى، فقدْ فَوَّضْتُهُ، وألقيتُ عليهِ رِدائِي!، ثمَّ إنَّني يُلْجِمُني الغَرَامُ؛ فلا أقْوَى على الكَلِمِ.!

تشبَّثَتْ راحَتَاها بجناحَيْه، وأشْخَصَتِ البَصَر، ثُمَّ لاحَتْ لها الأسْرار.!

أوَّلُ ما بدا لها مِنْ عَلٍ: عُصفورانِ أخْضَرانِ على غُصْنِ أيكة، يُقَبِّلُ العُصفورُ أنْثَاه في حَمِيمِيَّةٍ بوضْعِ منقارِهِ في منقارِها على بابِ عُشِّهِما الذي جمعا أعوادَهُ، وقَشّهُ مَعَاً.

 

الحب عطاء تحيا به القلوب

قال القلبُ: أَوَما دريتِ؟ إنَّها قُبْلةُ الحياة، إنَّهُ يُطْعِمُهَا في فَمِها، فالحُبُّ ليس كلماتٍ تُقال تُدَغْدِغُ المحبوب، بلْ عطاءً يُنَال تحْيَا بهِ القلوب. الطيورُ تعلّمُنا أسْمَى مراتبِ الحُبّ؛ لأنَّ قلوبَ الطيْرِ بلا شوائب.

ثمّ اقتربا من قاربِ صَيْدٍ صغيرٍ تهدْهِدُهُ الرِّيحُ على صفحةِ النَّهر. الصيَّادُ الفقيرأجْهَدَهُ الصَّيْدُ؛ فنامَ في موضعِهِ أعلى القارب، بينما تمدُّ زوجتُهُ يدَها، تمسَحُ عن وجهِهِ حبَّاتِ العَرَقِ التي بدتْ كلؤلؤاتٍ تحتَ ضَيِّ الشّمس، وأسفلَهَا طفلةٌ وطفلٌ يلعبانِ بسمكةٍ صغيرة، أغْرَتْها براءةُ الأطفالِ بالتشبُّثِ بالحياة!

وأوَانٍ للطبخِ مبعثرةٌ في بطنِ القارب وبعضٌ من غِطَاء؛ تُنْبِئُ عن حياةٍ كاملةٍ في هذا القاربِ الصَّغير،الذي وضعَتْهُ الأقدارُ في مهبِّ الرِّيح.

قال القلب: هكذا الحُبُّ: لا يعوزُهُ مالٌ ولا سلطان، وإنَّما يُلْهِبُهُ قلبانِ يخْفِقان، فالحُبُّ لا يحْيَا في القلوبِ الميِّتة. حينَ تتماهَى القلوب؛ تقومُ دولةُ الحُبّ.

ثمَّ انْطلقا حتى اقتربا من عاشقينِ تحتَ ظلِّ شجرةٍ على أرضِ جزيرة، وقد مالتْ عليهما زَهْراتٌ فوّاحاتٌ من غصونٍ متلهِّفةٍ لرؤيةِ لحظةِ التّتْويج. قبْلَها، صارعَ العاشقانِ أمواجَ التّيهِ في بحرِ الحياة، يصْطَكَّانِ بوعورتها؛ فلم يزدْهُما ذلك إلا بأساً وإصراراً على بلوغِ الأمنيات. كان كلُّ شيءٍ حولَهُما في هاتيكَ اللَّحظة، يشِي بوُلُوجِ لحظةِ البَوْح، وحين تكونُ الكلماتُ من القلب؛ يخْضَرُّ حولَها كلُّ شيء، وتدِبُّ الحياةُ في الجمادات، فإذا هي تتنفّسُ عِشْقاً حقيقيَّاً.

 

حوار المحبين

تَسَمَّعَتْ بثينةُ حوارَهُما المُدهش، ولم تكنْ لحظَتَها في حاجةٍ للتأويل.

همستِ الفتاة: مادام حُبُّكَ في قلبي يتدفَّق، فليغْرُبْ كلُّ السُّكان،  فلتغرقْ كلُّ الشُطْآن، .. سنعيشُ العمرَ وحيدينِ في الكونِ الواسع، سنعيشُ العمرَ كإلفينِ للزَّهْرِ اليَانِع.

قال: مادام حُبُّكِ في قلبي يتدفَّق، فلْتُكْسَرْ كلُّ الأقدَاح، يكفيني مِنْ ثغْرِكِ رَشْفٌ، ينْسِينِي كلَّ الأتْرَاح.!

تورَّدَ وجه بثينةَ، واحمرَّ الحُلْمُ خجلاً، وازدادتْ ظَمَأً فاقتربتْ، واشتاطتْ شوقاً فاستمعتْ:

عيناكَ حِرْزٌ في الحضورِ وفي الغياب!، قال: مِنْ دونِ عينيكِ الْحَيَاةُ يَبَاب.!

حَطَّ على الشّرْفَةِ عصفورٌ جاء بالخبرِ اليقين،  تسلّلَ صوتُهُ إلى أذنيها فاستيقظتْ، وهي تحتضنُ وسادتَها، كما يُحْتَضَنُ الوليدُ العزيز. ألقَتْ بطَرْفِها على وَهَجِ الشمسِ المُشاكِسة، ثمَّ ما لبثتْ، ترحِّبُ بزائرِ القَلْبِ الغازي من أقاصي الصَّعيد، وتلْفَحُ الرُّوحَ نارٌ بالشَّوقِ تَسْتَعِرُ.!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى