إبداع

وقفة نقدية مع بطل «الجريمة والعقاب»

تخيّل الشخصية الروائية أثناء القراءة يثير أسئلة مهمة تدخل في صميم عملية التلقي

د.برهان شاوي
Latest posts by د.برهان شاوي (see all)
منذ أربعة عقود وبالتحديد في بداية النصف الأول من السبعينات قرأت دوستويفسكي..كنت أتخيل الأماكن والأحداث كما تشكلها مخيلتي وذهني من مواد الواقع المحيط بي آنذاك.
كنت أشكّل أبطال الروايات وأتصورهم من خلال الوصف أو من خلال ما اختزن في ذاكرتي من صور للناس الذين أعرفهم أو الذين مروا على ذاكرتي أو من خلال نجوم السينما..!
وهذا الأمر لم يحصل مع دوستويفسكي فقط وإنما مع كل أبطال الأدب سواء في الرواية أو النصوص المسرحية أو أبطال الملاحم..!
ومن المؤكد أن للمكان والجغرافيا ولطبيعة الناس وعاداتهم وتقاليدهم ولطقوسهم تأثير حاسم في تشكيل شخصياتهم الفردية والقومية والوطنية..ومعرفتنا لذلك تساعدنا في تخيل تلك الشخصيات عند قراءة اي عمل روائي..
وهنا أريد التوقف عند شخصية واحدة من الشخصيات الشهيرة في عالم الأدب.. وهي شخصية «رودين رومانوفيتش راسكولنيكوف».. بطل رواية «الجريمة والعقاب» لفيودور دستويفسكي كنموذج.

 الشخصية الروائية تتشكل في وجدان القارىء وفقًا لصورة ذهنية

فحين قرأت رواية «الجريمة والعقاب» وأنا في مدينتي الكوت لأول مرة.. ثم أعدت القراءة في بغداد لمرتين بعد سنوات، كنت أتخيل الأماكن والبيت الذي كانت تعيش فيه المرابية العجوز، وكذلك أتخيل السلّم الذي صعده راسكولنيكوف ليقترف جريمته، وأتخيل براءة وجه المومس الفاضلة سونيا ميرميلادوفا.. وكذا الأمر مع بقية الشخصيات.. أتصورهم من عندياتي.. كما يتشكل الواقع المحيط بي.. فراسكولنيكوف كنت أتخيله مجسدًا في شخصية جار لنا، وسونيا مجسدة من خلال فتاة مسكينة في شارعنا..وهكذا.
وحين وصلت إلى موسكو لدراسة السينما، ثم زرت ليننغراد أو سانت بتيربورغ كما تُسمى الآن، في سفرة شتوية نظمها المعهد لنا، وكان ضمن برنامجها زيارة بيت دوستويفسكي.. وتعرفت، من خلال استاذة للأدب الروسي كانت ترافق مجموعتنا على الأماكن الواقعية التي وصفها الكاتب العبقري بدقة متناهية.. فهنا البيت الذي كانت المرابية تعيش فيه، وهنا المكان الذي رمى راسكولنيكوف الساطور فيه بعد اقتراف الجريمة، وهناك الجسر الذي قطعه كالمحموم، وفي هذا المكان يُظن أنه خبأ فيه القطع المسروقة..!
حينها فقط شعرت بأن ديكور الرواية قد تغير بالكامل في مخيلتي.. إذ كنت قبل ذلك أشكّل وأرسم وأتصور الأماكن بشكل مختلف ووفق ما يتدفق في ذهني من صور..ثم شاهدت الفيلم الروسي السوفيتي المأخوذ عنها.. وترسخت صورة الممثل (تاراتوركين) في أعماقي كتجسيد روسي لراسكولنيكوف، على الرغم من أن الفيلم كان بالأبيض والأسود..!

صور شخصيات الروايات في السينما يراها القارىء تتحرك بين السطور

ومرت سنوات عديدة شاهدت خلالها كل الأفلام والمسلسلات التي تم إخراجها عن رواية «الجريمة والعقاب» تقريبًا.. وكنت انتبه لحساسيتي نحو شخصية «راسكولنيكوف» وشخصية الممثل الذي يجسدها على الشاشة، كما شاهدت مسلسلات أوربية وروسية ويابانية وهندية مأخوذة عن الفيلم لكن صورة الممثل «تاراتوركين» في دور راسكولنيكوف لم تبرح ذهني، بينما دوستويفسكي نفسه كانت في ذهنه صورة وتجسيد لراسكولنيكوف الذي من خلاله استمد الشخصية الروائية..، بل حتى حينما صرت أعيد قراءة الرواية فأن صورة هذا الممثل هي التي كانت تتحرك بين السطور حين يأتي ذكر راسكولنيكو، علمًا كما نوهت فأن رواية «الجريمة والعقاب» قدمت على شاشة السينما والتلفزيون عشرات المرات، ويمختلف اللغات والسمات، وحتى الروس أنفسهم قدموها أكثر من مرة بمختلف الممثلين.
التعامل مع الشخصيات الروائية، وتخيلها أثناء القراءة يثير أسئلة مهمة تدخل في صميم عملية التلقي. وأعتقد أن الكاتب نفسه وهو يجسد شخصياته على الورق لديه شخصية واقعية أو تخيلية في ذهنه، وإذا لم يستطع تجسيد ذلك في ذهنه فشخصياته على الورق تكون هلامية وبلا ملامح.
وشخصيًا أطلب صورًا عديدة من النماذج الحقيقية التي استمد منها لشخصياتي، بحيث أرى الشخصية الحقيقية تتحرك أمامي لحظة الكتابة.
والحقيقة هنا يكمن الفرق بين الأدب والسينما.. لأننا أثناء القراءة نتخيل الشخصيات الروائية ونشكلها وفق تجاربنا الشخصية وذائقتنا الجمالية وتقبلنا لها لحظة القراءة ووفق بيئة الشخصية التي نعيشها نحن ووفق وطبيعتنا ولباسنا ومزاجنا النفسي والاجتماعي.. بينما السينما تقدم لنا الشخصيات وفق رؤية المخرج ومع ذلك تتلبسنا صورة بعض الممثلين حين نعيد قراءة رواية شاهدناها فيلم..

تصوراتنا عن الشخصية الروائية تحسم تقبلنا الفني لها

ولنجرب مثلًا، من خلال تجربة كل منا الآن، على الأقل من أبناء جيلنا، حين يقرأ ثلاثية نجيب محفوظ، سيجد نفسه يستذكر «يحيى شاهين» في دور «سي السيد أحمد عبد الجواد»، و«نور الشريف» في دور «كمال»..!
وهنا نجد تأثير السينما الكبير على تخيلنا للشخصيات الروائية شئنا أم أبينا، على الرغم من أننا أحيانًا لا نتفق في اختيار الشخصية للدور المعنى على الشاشة.
شخصيًا كنت أرصد عملية تقبّلي للشخصيات الروائية من خلال الشاشة مرات عدة..وهنا أتذكر مشاعري مع «آنا كارنينا»، وذلك من خلال التقديم الأخير للرواية سينمائيًا، حيث قدمت الشخصية الممثلة «كيرا نايتلي»..
وشخصيًا أنا أحب هذه الممثلة جدًا لاسيما في دورها الذي لا يُنسى في الفيلم المأخوذة عن رواية «كبرياء وهوى» للكاتبة «جين أوستن»، وأيضا أدوارها في أفلام أخرى رائعة..
لكني لم اقتنع بحضورها وشخصيتها لدور «آنا كارنينا» ليس لأنها لم تجيد الدور، وإنما لتقبلي المختلف لهذه الشخصية .. وبالتأكيد تصوراتنا عن الشخصية الروائية هي التي تحسم قضية تقبلنا الفني لها.
تخيل وتجسيد فيزياء الشخصية الروائية عند الكتابة وكذلك عند القراءة مسألة ليست عابرة كما يبدو للبعض، وٱنما هي عملية خلق فني وجمالي جديد يقوم به الكاتب من جهة والقاريء من جهة أخرى بعيدًا عن تصورات الكاتب وتخيلاته عن أبطاله.
بل ويحدث أحيانًا أن يتخيل الكاتب شخصية ما في عالمه الروائي وإذا به يلتقي بشخصية في الواقع تكاد تكون تجسيدًا لشخصيته الروائية.. وقد حدث معي مثل هذا الأمر مرارًا، علمًا أنا في معظم الأحيان أعتمد على صورة الشخصية الواقعية التي أستمد منها شخصيتي الروائية.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى