حول العالم

تحولات السرد في «متاهة العدم العظيم»

رسالة ماجستير الباحثة سارة على فرحات عن الرواية

«متاهات» الروائي الكبير دكتور برهان شاوي كانت وما زالت محل بحث ودراسة لكثير من الباحثين في مجال الرواية، وتزخر بهذه الدراسات الأكاديمية العديد من الجامعات على مستوى العالم.

فقد تقدمت الباحثة سارة على فرحات برسالة ماجستير عن رواية «متاهة العدم العظيم» الصادرة عن دار النخبة، والتي أشرفت عليها الروائية والأكاديمية الأستاذة الدكتورة نتالي إيليا الخوري.

متاهة العدم العظيم وتحولات السرد

يقول د. شاوي عن الرسالة:

«مع أنها كتبت عن رواية واحدة لي وهي «متاهة العدم العظيم» لكنها، ومن دون مجاملة، من أجمل ما قرأت عن الرواية وعن «المتاهات» كلها.

فمن أجل أن تتوغل الباحثة في المتاهة التاسعة وتفككها، وفق موضوع تحولات السرد، قرأت المتاهات كلها وفككت بنيتها السردية التي قسمتها إلى: السرد الغنائي ودور الشعر، السرد الإيروسي، والسرد المهجن».

 وهنا اقتباس من الفصل الأول في الرسالة والمعنون: الأبعاد الميتافيزيقية والمظاهر الواقعيّة من خلال تحوّلات السّرد.

1- الواقعيّة الغرائبيّة والتّعلّق بالغيبيّات:

تحاول رواية «متاهة العدم العظيم»، أن تنقلنا عبر فضائها السّرديّ إلى عوالم عجيبة، توهمنا أنّنا خارج المكان والزّمان، من خلال سردها الغرائبيّ الّذي وصل إلى حد الخوارق، أحداث غريبة، أماكن عجيبة، يسود اللّامنطق في تحرّكات شخصيّاتها…

محاكاة التابوهات الدينية

ونجد الكاتب يُحاكي التّابوهات الدّينيّة، والغيبيّات بميتاروائيّتها، فيتحوّل السّياق إلى فضاء سرديّ يصبح فيه الأسطوريّ والعجيب جزءًا من واقعه السّرديّ… ولعلّ هذه الوفرة في مرجعيّاته التي انصهرت في بوتقة الواقع واللّاواقع، حقّقت أكثر من وظيفة، وساهمت في بناء هذه الواقعيّة الغرائبيّة إلى جانب تماس الحقيقة بالحلم والرؤى، لإنجاز جماليّة «التّجريب الرّمزيّ»، الّتي هي جماليّة التّعامل مع العجيب، ولعلّ أبسط تعريف للعجائبيّ يتمثّل «أنّه يبدو في شكل فضيحة أو تمزّق أو ولوج عنيف يكاد يكون غير محتمل في العالم الواقعيّ»(الباردي، محمد، 2002، صفحة 250)

 ويختلف تأثير الواقعيّة الغرائبيّة في السّرد، بحسب الهدف منها، فما زخرت به الرّواية من العجب في بنيتها، يجعل المتلقّي في حيرة وتردّد حول الغرض من هذه الوقائع، ويقول القزوينيّ معرّفًا العجب: «العجب حيرة تعرّض للإنسان كقصوره عن معرفة سبب الشّيء أو عن معرفة كيفيّة تأثيره فيه» 

الشيطان في متاهة برهان شاوي

 لتوضيح ما تحدّثنا عنه سوف نورد الوقائع الغرائبيّة التي استمدّيناها من رواية «العدم العظيم».

الدّائرة الغرائبيّة الأولى: الشّيطان:

1- يظهر إبليس لآدم الأكوينيّ يُجالسه ويحاوره.

2- يظهر إبليس مغايرًا لما تصوّره الأديان، ففي الرّواية إبليس رجل أشقر وسيم.

3- ظهور رواية لإبليس وجدت من العدم على حاسوب آدم الأكوينيّ، واختفائها بعد قراءة آدم لها.

4- إبليس مؤمن، لديه إيمان أكثر من جميع البشر.

5- معرفة إبليس للغيب، وطلبه من آدم بعدم الحكم على الآخرين.    

6- زيارة الشّيطان للرّاهب، والحديث معه عن قصص البشر، وأفعالهم وأقنعتهم، جعلت الرّاهب يبتعد عن عالم البشر ويفضّل الاعتزال.

كيف قدم المؤلف إبليس

إنّ تقديم إبليس بشكل الممثّل الإيطالي النّمساويّ (هيلموت بيرغر)، ومنحه حقّ المرافعة، ومحاورة الشّخصيّات يُزعزع ما رسمته الأديان، وشكّله البشر في أذهانهم على أنّه قبيح وشرير، وها هو إبليس في الرّواية يناقض وينتقد الأديان وأفعال البشر…  هذه الوقائع الغرائبيّة عند شاوي أظهرت مدى جدّيته في إزالة القشور التي وضعتها البشرية في الأديان، فالإنسان حين يقترف الخطايا يرجّحها للشّيطان للتّخلّص من شعوره بالذّنب (باعتباره يوسوس له).

 وحين قُدّم الشّيطان كرمز دينيّ بقلم آدم الأكويني الأستاذ الجامعيّ نجده يشكره على منحه الفرصة للدّفاع عن نفسه فيقول لآدم: “قدّمتني بشكل جميل ووسيم… وأعتقد أنّك مثلي بالضبط مؤمن بأنّني غير موجود، ولذا أشكرك مرة أخرى، لأنّك منحتني الفرصة كي أكون موجودًا لأدافع عن لا وجودي…!”(شاوي، برهان، 2019، صفحة 22)

وقائع غرائبية

 هذه الوقائع الغرائبيّة تشكّل صدمة للمتلقّي، تحثّه على التّفكير مليًّا، وتثير فيه الرّغبة في البحث عن اليقين، وهذا ما يهدف إليه شاوي، فالشّيطان موجود ولكنه نوعان «وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوًّا شياطين الإنسِ والجنّ يُوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرُف القول غرورًا ولو شاء ربُّك ما فعلوه، فَذَرْهُمْ وما يفترون» (القرآن الكريم، سورة الأنعام).

وشياطين الإنس أشدّ فتكًا ودمارًا من إبليس (الجنّ)، فهو دوره يقتصر على الوسوسة «الّذي يوسوس في صدور النّاس» (القرآن الكريم، سورة النّاس).

فمهمّته تقتصر على الإيحاء، أمّا شياطين الإنس (البشر)، فهم يقتلون، ويقدّمون أداة القتل السّلاح، وإن كان شيطان الجنّ يزيّن لك المعصية مهما كانت، فشيطان الإنس يقدّمها لك على طبق من ذهب (كصنّاع الحروب، القوّاد، تجّار المخدّرات، عصابات النّهب…)، وإن كان أوّل فعل لشيطان الجنّ عدم السّجود لآدم، فشيطان الإنس تجاوز نظيره بأشواط حيث قتل أخاه (قابيل وهابيل).

القيم والأخلاق في العدم العظيم

 وما تناول الكاتب في السّرد لزيارة الشّيطان للرّاهب، وإخباره بأفعال البشر من عنف وتعسّف وقمع وتدمير للعالم، إلّا تأكيد على همجيّة البشر، وهروب الدّين الحقّ الّذي يمثّل الرّاهب إلى عالم غير معروف فيه الزّمان ولا المكان، فالدّين معلّق وبراء ممّا يحاك حوله، ويُنسب إليه، إذ أصبح رجاله حرّاس للعبادات، يتحدّثون عن الله، وكأنّهم يعرفونه بينما في الحقيقة يناقضون أنفسهم، وما أكثرهم اليوم في إصدارهم لفتاوى تسمح لهم بالقتل، وإشاعة البربريّة، واستباحة المحرّمات، وانتهاك القيم والأخلاق.

 الدّين الحقّ ركيزته الأخلاق، وما بعث الأنبياء إلّا لإتمام مكارم الأخلاق، فما نفع تأدية الفرائض مع التّعامل بفوقيّة، وبازدراء للآخر واستباحة قتله لأنّه مختلف، والدّين المسيحيّ أيضًا يؤكّد على الأخلاق في سفر الأمثال «اقتنِ الحقّ ولا تبعه، والحكمة والأدب والفهم» ولكن من البشر من سوّغت له مصالحه تحريف الأصل من الدّين، بهدف التّحكّم والهيمنة مع ضمان تبعيّة الآخر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى