
- ترانيم.. الصمت - 2 فبراير، 2021
يقولون إن الشعر صناعة لغوية تعبر عن ذواتنا وعن إنسانيتنا وعن أحلامنا التائهة، لكن هذه القواعد الثابتة اكتسبت حالة إنسانية وأدبية لها خصوصيتها في «ترانيم الصمت».
إذ وبين الشك واليقين، الإقبال والإدبار، العدل والظلم، الحزن والفرح، القوة والضعف، الأمل والألم، الصعود والهبوط، التفاؤل والتشاؤم، النصر والهزيمة، الحب والكراهية، التقارب والتباعد..
وإلى آخر هذه الدفقات الشعورية المتضاربة كانت الرحلة خلف «جدار الصمت» خلسة إلى جبال وسهول اليمن الساحرة، متجولاً برشاقة بين هضابها وقلاعها وكهوفها وسهولها وصحاريها وآثارها العتيقة ليفوح بعبقها التاريخي العريق، ويحلق عالياً مع قصائده المفعمة بالحب والعشق والرومانسية تارة، وحزينة وشجية ومؤلمة كترانيم الصمت تارة أخرى، تعكس واقع اليمن الممزق الجريح.
يأخذنا هذا الديوان لا إراديًا إلى أضابير المجتمع القبلي الذي يعشق الشعر، ويتلقى من خلاله رسائل تحمل معاني وتلميحات صريحة يتخذون على أساسها مواقفهم واحتياطاتهم التي اعتادوا أن يترجمونها فيما بينهم شعرًا ونثرًا أشبه بالبرقيات السرية المشفرة.
من هنا تتجلى بلاغة العرب وفطنة البدو في قوالب شعرية جذابة.
وسط ظروف شديدة التعقيد، وأجواء تحيطها الهموم والمعاناة، يختلي شاعرنا جانبًا مع نفسه، ليفرغ ما يجيش في صدره من أفكار وظنون وهموم في قصائد قصيرة سريعة الإيقاع، لكنها تترجم بصدق مشاعره الرقيقة وروحه المرهفة وتعكس شخصيته القيادية المتميزة، سرعان بعدها ما يعود إلى اهتماماته السياسية ومتابعة حياته اليومية وطقوسه وانشغالاته التي لا تنتهي.
تتسم قصائد الشيخ علوي الباشا، بروح الجدية والمسئولية والموضوعية. إلى جانب دقة اختيار القضايا متنوعة المضمون ثرية التفاصيل، فيرسم لنا لوحات واقعية، لكل ما يدور حوله من أحداث يومية يعيشها بوجدانه الصافي في معمعة الحياة الصاخبة وما يواجهه أهله وشعبه من معاناة وتمزق واقتتال.
(جدار الصمت).. حالة شعرية ووجدانية استثنائية ومرآة للوطني الأصيل، يمكن لكل يمني عادي أن يجد نفسه بين سطور قصائده البسيطة، عبر القضايا التي يتناولها شاعرنا بدقة من خلال تفاعله المباشر وتأثره بكل ما يواجهه أي مواطن في أمسه ويومه أو ينتظره غده، لذا جاءت عميقة، سهلة، فياضة، تخترق المشاعر وتلمسها بلا تردد ولا تفكير.
شاعرنا اختار الوصول إلى قلب جمهوره عبر لغة شعرية «شعبية» يفهمها العامة، دون شرح أو تفسير أو عناء، رغم عمق موضوعاتها، وبساطتها، بتجاوب عفوي، تلقائي مع أحلام وطموحات اليمنيين القابعين حاليًا في قلب جحيم الخوف والفقر والمرض.
بين أيدينا قصائد عديدة بعناوين وقضايا متنوعة من (بدوي تعلم، عافية، جزيرة شوق، بدون عتاب، إياك تفشل، ثم نصل إلى الدنيا عواف،الزمان أدوال، سنام الفجر، وغيرها) والتي عبّر فيها الباشا بتلقائية مفرطة عن دور الشاعر أصدق تعبير خاصة في بيئة قبلية حساسة مثل البيئة اليمنية، وتعمّد أن يقترب في تناوله لموضوعات قصائده لِما يشغل بال المواطن البسيط، منذ أن يستيقظ حتى يأوي إلى فراشه في سلسلة شعرية مختلفة مميزة أشبه بالقصص واليوميات .
وربما يكون أهم ما يميز قصائد جدار الصمت، البساطة واليسر، فتلمح بين سطورها، روح التصوف والتبتل في قبلة الناسكين الذي تتصف به أغلب البيئات البدوية، إلى جانب الأجواء الاجتماعية والإنسانية، لكن تظل المسحة الرومانسية هي السمة الغالبة على معظم القصائد، بما يثبت انحياز الشاعر إلى التركيز على الهموم الوطنية والإنسانية التي تشغل وتمثل قطاعات عريضة من الشعب اليمني.
ظلت روح البدوي المتمرد طاغية ومسيطرة على الشاعر، ودون أن يدري، تسللت هذه الروح إلى أغلب القصائد التي تناولت عادات وتقاليد وقيم متأصلة في البادية من إقدام وشجاعة، كرم ونجدة المظلوم، وكل هذه الصفات تضمنها الديوان بانسيابية مبهرة من أول شطر حتى آخر قصيدة.
ولم تغب الروح الوطنية المتوهجة في الديوان أبدًا، فنجده، دائم الإلحاح على تحكيم العقل ودعوة الخصوم للارتفاع عن الصراع والخلافات، ووضع مصالح البلاد والعباد بعيدًا عن الأطماع والمصالح الفردية الزائلة، لعله يسمع تلك الدُمى التي تحركها قوى خارجية، لا تضمر لليمن الذي كان يومًا ما سعيدًا وبهيًا سوى الخراب والدمار.
أهم ما لفت الانتباه في هذا الديوان الجذاب، أن المشهد اليمني بكل تفاصيله تجده حاضرًا بين سطور أبيات قصائده، حتى لو حاول الشاعر الهروب من واقعها المؤلم حاليًا، لكنها تلمس دائمًا تطلعه المستمر نحو تجاوز محنة الانقسام والتشرذم، والحلم بوطن موحّد كريم يتسع للجميع بعيدًا عن التفسخ والهشاشة والوهن والحروب، محاولًا التخلص من الثقل والعبء والهم الجاثم على صدر شاعر وطني يعشق بلاده ويئن لألمه.
فلم يستطع الهروب من أحداث اليمن الحزينة المبكية، فتجلى ذلك بوضوح في اختياره لعناوين ومفردات ديوانه المميز ليكون هو الملاذ للبوح والتعبير لا جدارًا للصمت.