حول العالم

ترجمة الأدب بين محاكاة النص واكتشاف المضامين

المترجم يجب أن يقرأ في كل شيء يتصل باللغة التي يترجمها

تحت هذا العنوان كتب إبراهيم الملا، في صحيفة «الاتحاد الإماراتية» هذا التقرير عن الترجمة ودورها في التقارب الثقافي..

وجاء في التقرير:

تلعب الترجمة دوراً مهماً وفاعلاً فيما يخص التقارب الثقافي وردم الهوّة بين المرجعيات المتباعدة جغرافياً، خصوصاً في المناطق المحصورة في خصوصيتها النائية والمغلقة نوعاً ما.

والترجمة، كفعل حضاري منفتح على الآخر الغريب والمختلف، باتت اليوم تقتحم الأسوار العالية التي حوّلت الآخر، أو المجهول، إلى ما يشبه الضد، أو الكائن المُلتبس والمستهجن.

وللترجمة إشعاعاتها المعرفية الواصلة بين هويات منسيّة ومعزولة، ومن هنا تأتي أهميتها وضرورتها في مزج هذه الثقافات وتعميم نتاجها الفكري والأدبي والميثولوجي، ضمن أفق إنساني رحب ومشترك، فهذا التمازج الإنساني، أو التداخل المعرفي، أدى إلى جني ثمار التبادل والحوار والإضاءة الجمالية على التجارب الفنية والروحية والفلسفية للشعوب.

 

الترجمة أطلقت الكنوز الشعرية والروائية المحبوسة

 

لقد أماطت الترجمة اللثام السميك عن الكنوز الشعرية والقصصية والروائية التي ظلت لعهود طويلة حبيسة للغتها، وأسيرة لنطاقها وانكفائها وسط الملمّين بها فقط، فصارت هذه الكنوز الثقافية جزءاً من ميراث الحضارة الإنسانية الشاملة، بكل تجليّاتها وإشراقاتها.

ولا يمكن هنا عزل أميركا اللاتينية بكل ثقلها الحضاري، وحمولاتها العجائبية وتنوعها الأدبي، عن سياق الترجمة إلى اللغة العربية، وما يكتنف هذه الترجمة من رؤى واستلهامات واقتراحات متعددة، يميل بعضها لمحاكاة النص الأدبي اللاتيني، بينما ينتصر الاتجاه الآخر لاستكشاف أبعاد ومضامين وخبايا هذا النص، فالترجمة قادرة على تجاوز دور الوسيط اللغوي المحايد، لتصبح هي النص المتحرك في أفق ثقافي أوسع، وفي جذر معرفي أعمق، كي تلامس بذلك مستويات النص، ودوافع كتابته، وتفكيك شيفرته، واستجلاء رموزه المتوارية خلف أقنعة النص وداخل أدغاله اللغوية.

إن الانعطافة الحضارية الكبيرة هي التي شكّلت الهوية الثقافية الملتبسة لشعوب أميركا اللاتينية، منذ الغزو الإسباني وإطلاق المسمّى المجازي «الهنود الحمر» على السكان الأصليين لتلك القارة الجنوبية الشاسعة، ولم تكن تلك الأرض جديدة، كما اعتقد الغازي في مخيلته الكولونيالية التوسعية، بل كانت أرضاً لحضارة قائمة، ولكنها معزولة ومنسية.

 

ترجمة الأدب اللاتيني

 

ويذكر المترجم الشهير طلعت شاهين، الذي نقل إلى العربية أهم أعمال الأدب اللاتيني، أن بدايات ظهور الشكل الروائي في أميركا الجنوبية، كانت من خلال الأدب الشفاهي المتضمن سرداً حافلاً للملاحم والأساطير المتوارثة، ثم تطوّر الأمر على يد رجال الدين الكاثوليك الذين اكتشفوا أن الوعظ المباشر للتعاليم المسيحية لا يؤثر في السكان الأصليين، بل كان ينفّرهم، فبدأوا في استغلال الحكايات الأسطورية المحلية، كمدخل ملهم ومحفّز، لاختراق الذهنية المحلية والتأثير عليها، ما أدى لاحقاً لظهور الفنون الأدبية والتعبيرية الحديثة في أميركا اللاتينية، مثل الشعر والمسرح والرواية والقصة القصيرة.

إن ظهور أسماء لامعة في مجال السرد الروائي والقصصي بأميركا اللاتينية أمثال: روبين داريو، وبورخيس، وخوان رولفو، وماركيز، وروملو غاريوس، وفارغاس يوسا، وغيرهم، ساهم -دون شك- في التفات المترجمين العرب إلى نتاجاتهم المتميزة، على مستوى الطرح والتوليف والإدهاش الجمالي وتقصّي جذور الذاكرة الشعبية والتحولات الاجتماعية والتمازجات العرقية، والتي أسست لظهور إسهامات نوعية في سجلات الأدب العالمي.

ولاشك أن خصوصية التجربة الأدبية العريقة في أميركا اللاتينية تحتاج لمترجمين نوعيين أيضاً، حتى لا يكونوا مجرد ناقلين لقوالب نصيّة ومسترشدين بظاهر الكتابة الأدبية وحدها، دون الولوج إلى أسرارها وتلمّس منابعها.

وكما يرى المترجم طلعت شاهين الذي خبر اللغة الإسبانية جيداً وتماهى بها، فإن المترجم يجب أن يقرأ في كل شيء، وعن كل شيء يتصل باللغة التي يترجمها، وذلك حتى يمكنه أن يبني أنساقاً أخرى جديدة ومبهرة من خلال ترجمته، وإنشاء عمارة كتابية موازية لا تقل جمالاً وتناسقاً عن اللغة الأصلية، وبكل ما تحمله هذه اللغة من تأويلات ورسائل ورؤى لا يمكن كشفها إلا من خلال تجربة حياتية وثقافية، ممتدة ومتشابكة مع الرصيد المعرفي والفكري والسوسيولوجي الذي يختزنه النص الأصلي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى