إبداع

جماليات السرد في «خطايا العثماني الأخير»

تركز الرواية على فترة مهمة من التاريخ المصري والعربي

د. محمد سليم شوشة
Latest posts by د. محمد سليم شوشة (see all)

تحت عنوان «خطايا العثماني الأخير.. جماليات السرد التاريخي» كتب الروائي والناقد د. محمد سليم شوشة، قراءة نقدية للرواية في جريدة القاهرة..

وجاء في القراءة:

صدرت من أشهر قليلة رواية «خطايا العثماني الأخير» عن دار النخبة وهي الرواية الأولى للروائي والقاص أحمد محروس.

وتتمتع هذه الرواية بقدر كبير من جماليات السرد الروائي الجديد، تلك الجماليات القائمة على الطاقات المعرفية وعلى البحث والتنقيب والعرض المعلوماتي لمعلومات ووقائع ومصادر وأحداث لم تكن معروفة بدرجة كبيرة أو على نطاق واسع.

هذه الرواية الحافلة بالمعرفة التاريخية إنما تركز على فترة مهمة من التاريخ المصري والعربي، وهي مساحة قلما يكون الاشتغال عليها.

ومن دافع الاهتمام الكبير بهذه الفترة وما كتب عنها من سرد روائي تنبهت لهذه الرواية، وإن كنت في كتابات سابقة لي في جريد القاهرة العريقة قد أشرت إلى كتابات الروائي الفرنسي القدير (جيلبرت سينويه).

السرد التاريخي لفترة ما قبل حملة نابليون

 عن تلك الحقبة التاريخية فإن رواية أحمد محروس ترصد جانبًا كبيرًا من أحداث وتاريخ تلك المرحلة المتقدمة قبيل حملة نابليون بونابرت 1798 على مصر وبعد خروجها مباشرة.

هذه المدة التاريخية تبدو ضبابية بدرجة كبيرة برغم ما كتب عنها.

ذلك لأن مستوى التعليم والثقافة بالأساس كان منحدرًا إلى حد بعيد، وأن مفهوم التأريخ والعلوم الحديثة لم يكن واضحًا في أذهان المصريين أو العرب في تلك المدة التي تراجع فيها التأليف والتدوين بشكل عام.

وأن الكتابة أحيانًا ما تتجاهل الجانب الاجتماعي والشعبي وتلتزم الخط السياسي أو التاريخي أو العسكري دون أن تتعامل مع الحياة بكل جوانبها ، لذا فإن ما يخفى من تاريخ هذه الحقب التاريخية كثير ابتداء من العصر الأيوبي وكثيرًا من العصر المملوكي في دولتهم الأولى، وهو العصر الذي كان أفضل حالًا بكثير من الحقبة العثمانية.

وفي رواية «خطايا العثماني الأخير» نكون أمام حالة مكثفة من الصراع ضد فساد الدولة العثمانية في أوجه ذلك الفساد الذي بلغ ذروته وعنفوان جرائمه وجوره مع ضعف هذه الدولة، لأن الدول وهي تحتضر تكون أشبه بحيوان مفترس يكون في قمة شراسته وغياب الحلم ويتصور أنه يدافع عن وجوده.

رصد مفاسد الحكم العثماني

ميزة مهمة لهذه الرواية أنها ترصد مفاسد الحكم العثماني من زاوية رصد خاصة وهي الزاوية التي يرى منها الراغبون في الإصلاح، فالبطل الرئيس للرواية الشيخ رضوان الورداني هو واحد من المناضلين ضد فساد العثمانيين بدافع إصلاحي أي لم يكن راديكاليًا بشكل كامل مع الحكم العثماني، بل بدأ إصلاحيًا من الداخل وهذه مسألة مهمة، لأن زاوية رصد الأحداث فيها كثير من الموضوعية وعدم العداء الدائم.

بل هذا الرجل الذي يتنامى وعيه بمرور السنين ويتزايد التراكم المعرفي لديه عن أسرار هذه الدولة يبدأ تدريجيًا في رفضه ومعاداته لهم حتى يصل إلى نقطة لا يكون فيها غير المقت والبغض والرغبة في زوال حكم العثمانيين.

بدأ في لبنان مجرد رجل دين مجدد وإصلاحي يتعاون مع بعض الصحفيين والأدباء البنانيين والشوام يطالبون بتجديد دم هذه الدولة العجوز ودفعها إلى الإصلاح وأن تكون إمبراطورية حديثة على غرار الدول الأوروبية، وأن يكون هناك دستور يساوي بين كل المواطنين دون تمييز عرقي أو ديني وأن يمون لها برلمان من غرفتين، وأن تكفل الحريات والحقوق والمواطنة وتجديد الفكر الديني، لكنه واجه وأصحابه اتهامات وتشريد وتهديد لحياته.

رحلة نضال ومقاومة فكرية لبطل «خطايا العثماني الأخير»

وهكذا تمضي أحداث الرواية في رحلة نضال ومقاومة فكرية وتنامي معرفي وتنام لوعي بطل الرواية الشيخ رضوان الورداني المصري المتجول في أقاليم الدولة الكبيرة وولاياتها ما بين مصر ولبنان والقدس والحجاز وهو ما يجعل الرواية تتحرك في فضاء مكاني متسع وتأخذ شكل الرحلة ليس على مستوى النضال والتطورات في الأحداث ولكن الرحلة بمعناها المكاني والانتقالات.

وفي كل المناطق والأماكن لا يجد الورداني غير الظلم والتعسف والأطماع وآثار الانكشارية ومؤامراتهم.

يكون له الأصحاب والزملاء ورفقاء الدرب وهو ما يثبت أن لكل عصر رجاله المخلصين الذين يؤمنون بالقيم الإنسانية ولا يخلون من النزوع إلى العدالة وإعمال العقل.

فهذا الرجل الأزهري هو نموذج متفرد بحسب عرض الرواية وتصويرها له وهو شخصية ثرية ومهمة ولم يكن نموذجًا فرديًا بل كان معه كثيرون من شاكلته ومنهم شخصيات مسيحية كلهم آمنوا بضرورة التجديد والإصلاح وكانوا شهودًا على مؤامرات العثمانيين وشرههم وخياناتهم بأن كانوا يبيعون بعض الأقطار والأمصار العربية لدول الغرب ويتنازلون عنها لمجرد الرغبة في أن يحصلوا على قرض من بنوك أوروبا أو أن يضمنوا تعاونًا معينًا ضد روسيا التي كانت قد بدأت تناصب الدولة العثمانية العداء وتندفع نحو الانتقام منها.

أحداث الرواية ترصد آثار الحملة الفرنسية

لم يشهد الشيخ رضوان الورداني عصر محمد علي لكنه عاد إلى مصر أدرك ولمس رياح التغيير التي حدثت مع الحملة الفرنسية، ليس فقط مجرد التعديلات أو الإصلاحات الإدارية والعلمية التي قامت بها الحملة الفرنسية ولكن أيضًا أحس بروح جديدة تتشكل لدى المصريين وهي روح المقاومة وبداية تشكل الشخصية الوطنية المصرية مع فترة المقاومة، ذلك لأن المصريين بدأوا يستشعرون قوتهم مع صمودهم ومقاومتهم وبدأوا يشعرون بهويتهم الوطنية ضد العثمانيين والمماليك.

ومن الطريف أن المماليك كانوا أقرب للناس من العثمانيين برغم أن هؤلاء المماليك كانوا الأسوأ في تاريخ المماليك لأنهم أضعف وليس لهم شخصية وكانوا مجرد ملتزمين وجباة ضرائب وأذرع للوالي العثماني، لكنهم على كل حال كانوا أفضل بكثير من العثمانيين الذين لم يتذكروا مصر ولم يرسلوا أحدا للدفاع عنها بشكل حقيقي إلا مع خروج الفرنسيين.

وتذكر الرواية أن أحمد باشا الجزار الوالي العثماني الشرس على عكا وقت حصارها كان برغم صمود مدينته غير عادل في توزيع المؤن والطعام على أهل المدينة وكان يمارس جوره وأطماعه في أشد الأوقات.

فساد الولاة

وتطوف الرواية مع كثير من الحالات المشابهة لفساد هؤلاء الولاة الذين لم يكونوا خارجين أو مختلفين عن النظام الذي تبعه السلطان العثماني نفسه سليم الثالث الذي كان يحكم في تلك الفترة الزمنية التي تعرض لها الرواية.

حيث يهيمن على نظام الحكم في القصر العثماني المكائد والخديعة والنهم إلى الملذات، سواء من السلطان أو الانكشارية وقلما كان يأتي شخص إصلاحي ليقوم ببعض التعديلات ثم يأتي خلفه ليفسدها.

على أن هناك لمحة مهمة عرضت لها هذه الرواية وهي المرتبطة بالمرجعية الدينية والفقهية التي هيمنت على الفكر الديني للدولة العثمانية، حيث سيطرت حالة من الجمود الفكري والتشدد والتمحك في الدين لخدمة الأهداف السلطانية وخدمة قصر الحكم وأن يكون كل شيء يريده السلطان أو قائد الانكشارية له مبرره الديني.

الاضطهاد الديني 

وكثرت التهم الدينية في تلك الفترة ضد من يريدون الإصلاح واتهامهم بأنهم يتبعون الغرب الكافر وأن هذه التعاليم والأنظمة الجديدة لا تناسب المسلمين ولا معتقداتهم.

وأنه كان بسبب هذا حالات كثيرة من الاضطهاد الديني ضد المسلمين المختلفين في الرأي والاضطهاد الديني ضد المسيحيين كذلك وارتكبت كثير من الجرائم والمذابح وكان ذلك سببًا في هجرة كثير من العرب الشوام واللبنانيين إلى مصر ومنهم خليل زيدان والد الصحفي الكبير جورجي زيدان مؤسس دار الهلال المصرية لتكون واحدة من اعرق المطبوعات الصحفية وأقدمها.

ومن النقاط المهمة التي عرضت لها رواية أحمد محروس، أنها رصدت تصاعد الحركة العلمية والثقافية الناشئة في الأقطار العربية تزامنا مع الحس الوطني والنضال ضد فساد العثمانيين.

حيث كان ذلك مصحوبًا بحركة تعليمية كبيرة وواسعة وبعض رجال تلك المرحلة أرسلوا أبناءهم للتعلم في أوروبا، وكذلك صعدت حركة الطباعة والنشر وتقدم الصحافة والمسرح، ذلك لأن هذا النضال القومي والوطني أخذ مسارات غير مباشرة واعتمد على السبل الفنية والمعرفية.

والحقيقة هي رواية مهمة لكونها تعتمد على جهد كبير من البحث والتنقيب في الأحداث التاريخية، وتعد خطوة جيدة في مسار الكاتب لأنه اتجه إلى التاريخ بما فيه من الثراء وأبرز قدرات خاصة في قراءة ما بين السطور وقدرات كبيرة في الإلمام بحركة التاريخ وبشخصياته المهمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى