
Latest posts by حبيب درويش (see all)
- فلويد: حرموني من الحياة - 13 يونيو، 2020
- عجوز القصر - 30 مايو، 2020
- أرملة مومباسا - 23 مايو، 2020
في السادسة والخمسين من عمره، يعمل مصلِّح للأحذية منذ ما يفوق الثلاثين عامًا.
طيب ومسالم، له أطفال وزوجة طيّبة،حياته عادية جدًا، يقضي جلّ نهاره متنقلًا بين الشوارع، يضع أمامه كلّ مرّة صندوق بلاستيكي بني اللون، يقلبه على ظهره، ليضع عليه قارورة غراء وعلبة من المسامير ومقص قديم، وأدوات أخرى، واضعًا بين ركبتيه مجسّما حديدي بشكل القدم مثبّت بعمود أسفله.
هو إسكافي متنقّل،يقتات من عمل اليومي البسيط.
مع دخول جائحة كورونا ، وتطبيق الحظر الصحي على المدينة، مُنع من مزاولة عمله، عملًًا بتوصيات الجهات المختصّة،تفاديا لانتشار الوباء..
– والله يا زوجتي الغالية أعلم جيدًا ما تفكرين به! لكن ما لنا حيلة في ظلّ الظروف السائدة..
تبتسم،ثمّ تردّ عليه بشيء من الحزن..
-أشفق عليك من الهمّ، مخزون البيت من المواد الأولية قد نفذ، لا أعرف كيف سوف نتدبّر أمرنا! وليس بالمنزل دينارًا واحدًا.
ابتلع ريقه بصعوبة دون أن يشيح بوجهه عنها..
-لا أحد يريد أن يديّنني صدّقيني! ولست ممّن يشحت الّلقمة من الناس! أظنّك تُقدرينَ ذلك!
ابتلّت عينيه دمعًا، ينظر إليها- وما الدمع في عين الرجل إلا موت غير معلن- هي أول مرّة ترى دموعه، لم تستحمل ذلك فبكت، بل انفجرت إشفاقًا عليه وعلى نفسها وأولادها من الفقر والحاجة..
ضمّها إليه في زمن منع فيه العناق والسلام الإنساني، محاولًا طمئنتها..
-لنستعن بالصبر والصلاة لعلّها تُفرج.
كان أمامهما أبناءهما الثلاثة يلعبون كالعادة، بيت رثّ قديم، ليس من العادة أن ينتبه لحالهم أحد، يعتمد على جهده اليومي، عائدًا كل مساء بما كتبه الله لهم، لم تشتكِ هي قط ولم يعترض هو يومًا، راضيان محتسبان، لكن في ظلّ هذه الضائقة والوباء ما عساهم أن يفعلوا؟!
مع صباح اليوم الموالي، قرّر أن يلتحق بالشارع، أن يعود لكسب قوت يومه، لكن مع قلّة المارّة ،كان قد يأس من أن يُصلح ولو حذاءً واحدًا، بعد ساعة توقّفت أمامه سيارة الشرطة..
تمتم في سرّه..
-خير إن شاء الله!
ليتقدّم منه أحد أفراد الفرقة..
-ألم تفهم أيّها الإسكافي أنّنا نمر بظروف صعبة! قد أمرناكم بأن تلزموا بيوتكم، ولا تخرجوا إلّا للضرورة! مزاولتك لهذا العمل في هذه المحنة قد يكلّفك صحتك وربّما العقوبة الصارمة.
رفع رأسه المهزوم والمُتعب..
-سيدي، ليس لدي دخل ثابت، ولم يبقَ بالبيت ما نقتات به، إمّا أن أعمل أو أن أسرق والعياذ بالله!
بشيء من الشدّة والحزم يردّ عليه شكواه..
-ليست مشكلتي..
-إذا سأرجع البيت لكن بشرط!
ابتسم الشرطي..
-اسمعك تفضّل..
-خبّر سيدك (عبد الله) أن هناك رعيّة ملزومة من الراعي، أنا وأهل بيتي كالهرّة التي دخلت لأجلها امرأة (حمير) النار، لا هي رعتها وأطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، حسبي الله ونعم الوكيل.
لملم حاجياته و رحل في صمت يشبه صمت كورونا القاتل.
أكيد بداية من اليوم، سيكون أنين أطفاله الثلاث -من قلّة الأكل- أكثر إيلامًا من أنين القطّة الجائعة قبل موتها..
كلاهما حي، والظلم الواقع على كليهما أكيد يهزّ عرش الرحمن، في بلد يصير الحظر الصحي فيه موت للفقراء.