إبداع

«خريف الشرق» رواية من أدب السجون

تجربة المؤلف الشخصية من خلال عمله في السياسة وتعرضه لعذابات السجون في بلده العراق

أحمد عساف
Latest posts by أحمد عساف (see all)

في رواية «خريف الشرق» لراسم الحديثي. منذ العنوان الذي يشكل في عالم الأدب مفتاحًا للولوج إلى عمق النص الأدبي. منذ العنوان سنتلمس ذاك الخيط الروائي الذي يستدرجنا فيه الروائي لمعرفة بعض الأشياء عن أي خريف يمر فيه الشرق.

(خوف… ظلام يلفنا بردائه، قدر محتوم لا مفر منه، سعلاة سوداء اللون تخرج من النهر تعيش بيننا، تغرينا بالاقتراب منها، تنقض علينا وتفترسنا، شياطين تظهر في الظلمات يخرج من عيونها جمر ملتهب، تراقبنا وتسرق أفكارنا، عساكر مدججة بالسلاح تدخل بيوتنا، تسرق وتقتل وتغتصب وتـأخذ أرضنا) ص 7 .

هكذا يبدأ الروائي راسم الحديثي روايته «خريف الشرق» منذ البداية يهيئنا للولوج معه إلى عوالم روايته هذه، منذ البداية سنظن أننا سندخل كواليس أحداث هذه الرواية، حيث يتخذ الروائي ضمير المتكلم وهو من الضمائر التي تشد القارئ إلى تفاصيل وأحداث الرواية، (لم أعد أدرك شيئًا فيداي مكبلتان بالحديد، بدأتا تؤلماني، هذه مدينة داقوق، لا حركة فيها نائمة منذ سنين) ص9 .

منذ الصفحات الأولى لهذا العمل الروائي الشائق سنعرف أن الرواية تنتمي إلى ما يسمى بالرواية السياسية وأدب السجون.

جمالية هذه الرواية أن بطلها هو الرواي ذاته راسم الحديثي الذي صاغ روايته هذه من تجربته الشخصية من خلال عمله في السياسة وتعرضه لعذابات السجون وقهر الزنزانات في بلده العراق.

راسم الحديثي يتخذ من كاميراه الإبداعية وذاكرته صياغة تسلسل أحداث روايته، ضمن سرد روائي متقن ومبني على التكثيف والاختزال منعا منه لترهل جسد الرواية، وإغراقها بتفاصيل قد تدخل الملل للقارئ، نكتشف ومن خلال الرواية أن الزمن الروائي يسير بشكل أفقي، وضمن تسلسل منطقي للحدث الروائي، إلا أننا سنتوقف ومع صيرورة الأحداث بعضًا من (الفلاش باك) للذكريات، وهنا سنجد اشتغالات روائية جميلة لا تفتت الحدث بقدر ما تضيف إليه نكهة لغوية تكمل تفاصيل جميلة حفلت فيها هذه الرواية، هي تضيف متعة لمتابع الأحداث الروائية عبر السرد الجميل لهذه الرواية.

وهذه الفلاشات -الفلاش باك– لم يقحمها الروائي في روايته بقدر ما نجح هو حين اجتهد في صياغته الروائية لتكنيك متقن ومدروس، يثبت بالقول القاطع أن راسم الحديثي ومن خلال كل منجزه الروائي، استطاع بل نجح وتألق في إيجاد بصمة روائية تخصه هو ذاته. إذًا وكما أسلفنا فإن الروائي حين استخدم الخطف خلفا –الفلاش باك– لم يكن هذا الاستخدام بالأمر السهل، بل كان عنصرًا مهمًا في تقوية المتن الروائي وفي البنية السردية للرواية، في الكثير من هذا المناخ ينجح في توظيف الذكريات مثل بطل الرواية الذي يروي لنا الحكاية أثناء مروره وهو في السيارة التي تعتقله، تمر السيارة من الطريق المجاور للمدينة العراقية كركوك (كركوك…عشت أجمل أيام حياتي بين جنباتك، بالأمس كنت فقيرة مهملة مغطاة بالأزبال والحيوانات تنتشر في طرقاتك، حتى تفجر ذلك السائل الأسود تحتك، منحك الرب ما لم يمنحه لغيرك) ص9 .

ثم يتابع مونولوجه الداخلي حين يتذكر صديقه كاظم، هنا سنجد الراوي يتخذ من مونولوجه الداخلي المرتكز على ذاكرة غنية بالذكريات.

لاحظنا هنا كما سنلاحظ على امتداد صفحات المسرود الروائي لحين نهايته، كم هو مدروس وناجح، استطاع الروائي راسم الحديثي من خلاله المتماهي مع قارئه عبر تناسق متميز فيه الكثير من الشغف المتبادل بين الروائي وبين قراءه.

الروائي الحديثي لم يلجا لمتخيل الجغرافيا مبددة وهمية متخيلة ليبني عليها متن روايته، بقدر ما حدد رقعة جغرافية أحداث روايته بكثير من الواقعية في أمكنة معروفة مثل (العاصمة بغداد، كركوك وصلاح الدين، وشط العرب ومدينة الفاو).

وإن كانت هي تشير وبالبرهان القاطع لتفاصيل واقعيتها، هذه الجغرافية الروائية التي تحدد الأمكنة بواقعية كبيرة لا تعني أن الرواية هنا جاءت رواية تسجيلية أو سيرة ذاتية.

وإن كانت هي تشير وبالبرهان القاطع لتفاصيل واقعيتها، وانسيابها بقهر الحصى على رمال متحركة، نجح كثيرًا راسم الحديثي في رسم المشهد لنقل مشهده الروائي.

عبر نجاحه في فرض أدواته وتقنياته الإبداعية في الخروج من مطبخه الروائي برواية أحبها وسيحبها الكثير من القراء العرب.

لكن الروائي نجح في إيجاد إسقاطات وتقاطعات تتماهى مع نزف فلسطين كما بغداد وبيروت وتونس وباقي هذا الشرق الحزين.

هو الخريف الشرقي كما نحن تلمسناه بكثير من الوجع والحزن، شرق عربي يذهب نحو خريف أيامه الأخيرة –كما سنلاحظ تاريخ الزمان بمواعيد وأزمنة نقرؤها في الرواية ( 2 حزيران 1982– التاسعة صباحا اخترقت سيارات البيجو الثلاث تخوم العاصمة بغداد وهي تتسربل بأشعة شمس حزيران اللاهبة بعد عبورها مدينة الخالص المشهورة ببساتين البرتقال والرمان) ص 15 .

(الأول من آب– 1982 فتحت النافذة، قال أحدهم بصوت عال: سوف تذهب اليوم الى بيتك، خذ احلق وجهك) ص66 .

(عشت أحلامي ويقظتي مع أصدقاء السجون، ثمة دوافع غريبة تشدني اليهم، أفتش عنهم، وبالفعل بدأت أسأل) ص119 .

في رواية خريف الشرق علينا التمييز بين المكان الحقيقي والمكان الروائي، الذي تدور في فضائه أحداث العمل الروائي، وانفعالات وتفاعل شخصيات الرواية ضمن قيمة الزمان والمكان بكل تجلياته وأبعاده.

على مستوى شخصيات الرواية سنجد إنها شخصيات من لحم ودم، شخصيات مستلبة ومقهورة وغارقة في أحزانها وعذاباتها، وأخرى معلقة على نوافذ الأمل بانتظار الغائبين في غياهب الزنزانات وسراديب الموت.

رواية خريف الشرق للروائي راسم الحديثي هي نبوءة لما حصل ويحصل في السنوات الأخيرة لهذا الشرق المستلب والمسلوب والممزق والمطعون من الوريد إلى الوريد.

رواية «خريف الشرق» دار نشر النخبة –القاهرة– 2020.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى