إبداع

خيال الظل

لم أستطع أن أحرر عيني من مجالها وكأنها احتوتني وأسرت تركيزي

د.تامر عزالدين
Latest posts by د.تامر عزالدين (see all)

عندما اعتادت عيناي الظلام واستطعت أن أخترق جداره السميك لمحته في عمق الفراغ وعينيه تحدقان فيّ.. صدقوني أو لا.

كانتا تلمعان بومضة غريبة تمتزج فيهما ألوان الطيف، لم أستطع أن أحرر عيني من مجالها وكأنها احتوتني وأسرت تركيزي تجمدت مكاني لا أدري هل جمدني الخوف أم الرهبة أم الافتتان أم… ربما جمدتني المفاجأة مكاني. 

 فلم أستطع أن أتحرك خطوة أخرى للداخل، تتابعت في ذهني الأفكار والتكهنات سريعة فمن يكون هذا؟ ولماذا هو هنا؟ ومنذ متى؟

الصمت يفرض وجوده لا أستطع أن أحدد كينونته لا يبدو إنسانًا وإن كان على هيئته ويبدو متحركًا وهو ساكن ويبدو حرًا وهو مقيّد.

في الفناء الخلفي قد شيدت تلك الحجرة المرتفعة عن الأرض لا يفضي إليها إلا سلم حلزوني تبدو من بعيد كأنها معلقة في السماء يحيطها جو من الغموض والحذر؛ وقفت عند بابها جامدًا لا أدري، هل أعود أدراجي وأغلق هذا الباب أم أدخل لأستكشف؟

سمعت صوتًا من الداخل يدعوني:

-أدخل لا تخف.

سرت رعشة في جسدي وانتصبت خصلات الشعر على رأسي، كنت أعرف أن العواقب ستكون وخيمة بلا شك، لكني لم أقاوم الشغف وتقدمت بصعوبة داخل الحجرة.

وبدأت أحس أن الموقف كله كأنه حلم… لكن من قال أن الأحلام لا تتحقق، وعندما أصبحت على قيد ذراع؛ ظهر لي ظلٌ مهيبٌ لكنه مقيد، تردد الصوت في أرجاء الحجرة:

-فلتحررني.

إنه إذًا مقيد، إنه حبيس هذه الحجرة ويريد التحرر، إنه ليس بالخطورة التي كنت أتصورها، لكن ماذا إذا تحرر ربما وقتها تظهر خطورته… سيظل السؤال من هو؟ من أنت؟

أتاني الرد بسؤال على سؤالي:

– ألا تعرفني؟

– وكيف لي أن أعرفك؟ وهذه أول مرة أدخل هذه الحجرة.

– إنها أمامك طول الوقت، لماذا لم تأتِ إليها من قبل لتراني؟

– ولماذا يجب على أن أفعل ذلك؟

– لأنه يجب أن تفعل ذلك.

– لماذا؟

– لكي تكون موجودًا.

– لا أفهمك!

– لن تفهم، إلا إذا تقدمت إليّ الآن وحررتني من قيودي وإلا لن تكون لن تستمر في الحياة.. ستنتهي.

– أتهددني؟

– بل أحاول أن أوضح لك الأمر بكل بساطة؛ وجودك مقيد بحريتي.

– إنك تخدعني فوجودي واقع من قبل أن آتي إلى هنا وكان من الممكن أن لا تكون أنت موجودًا في حياتي إذ لم أفكر أن أدخل الحجرة؛ فكيف تحاول أن تقنعني أن وجودي مرتبط بحريتك؟!

– لأنك إلى هذه اللحظة لم تكن موجودًا، ولن تكون إلا إذا جعلتني حرًا.

– لا أصدقك، ومن يصدق هذا الوهم؟

– الوهم الوحيد هو أنت… فأنت غير موجود أصلًا.

– أنا موجود بالفعل ولولا أني جئت إلى هنا لَما عرفت بوجودك.

– أنت جئت لتعرف الحقيقة تعرف أنك غير موجود هذه الحقيقة لا تدركها من قبل، أما الآن فيمكنني أن أثبت لك هذه الحقيقة

– كلام فارغ واضح أنك مخبول!

– إذًا اثبت لي أنك موجود.

– مع من تتكلم أنت الآن إذا كنت أنا لست موجودًا أمامك؟!

– ربما أكلم نفسي فهل تستطيع أنت أن تكلم نفسك.

– أكيد ولكني لا أفعل فلست مجنونًا.

– بل لا تفعل لأنك غير موجود، فمن قال أن العاقلين لا يكلمون أنفسهم! فقط الغير موجودين هم من لا يجدون أنفسهم ليتحدثوا معها.

– إذًا، اثبت لي أنت أنني غير موجود.

– بسيطة حاول أنت تنظر إلى نفسك؛ هل تراها؟!

الحقيقة أني كنت في هذه اللحظة قررت أن أترك هذه الحجرة وهذا الخبل لكن لا أدري لماذا رفعت يدي أمام عيني لأتأكد من صدق كلامه؟

حاولت أن أنظر إلى نفسي، والعجيب أني لم أرَ نفسي، لست مخبولًا إلى هذه الدرجة، ولست في حلم، ولست واهمًا، لكني لست موجودًا أيضًا.

هل هو الظلام الذي جعلني لا أرى وجود لا أشعر بنفسي؟ أين أنا؟ هل هي حجرة مسحورة؟

لعنت اللحظة التي قررت أن أصعد لتلك الغرفة التي تقبع منذ زمن، أراها ولا أعبأ بها ولم يشغلني وجودها في الفناء الخلفي، ولم أسأل نفسي لماذا هي هناك هكذا كالمعلّقة؟ ومن يسكن بداخلها؟

لكني الآن داخلها أكتشف أني غير موجود، لكن إذا كنت أفكر فأنا موجود؛ هكذا يقولون… وأنا الآن أفكر إذًا أنا موجود… نعم… هذا دليل قطعي بوجودي فليذهب هذا إلى الجحيم.

– أنا موجود أنا أفكر.

– ليس لما تفكر فيه وجودًا حقيقيًا على الأرض، أنت تفكر في وجودك ووجودك لا يشغل حيزًا في الحياة، الوجود أن يكون لك حيزًا يقاس في الحياة غير ذلك فهو فراغ… قل لي من أنت؟… ها… لكن … لا تقل لي اسمك بل قل لي من أنت في هذه الحياة عندما نظرت إلى نفسك… ماذا رأيت؟

– لا شيء.

– لأنك لم تعرف الوجود بعد من غيري، ستنتهي كما انتهى من قبلك، ستموت كما مات غيرك، ستعيش كما يعيش الباقون، لو لم تحررني ستقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه غيرك وستظل طول عمرك هكذا.

– أتسخر مني يا هذا؟!

– أنا لا أسخر منك أنا أقول الحقيقة التي لا تعرفها، وقد حان الوقت أن تعرفها، أن تكون موجودًا أو غير موجود مربوط بتحرري، وإن لم تفعل وتفك قيدي ستظل هكذا غير موجود.

– ولماذا يجب أن أصدقك؟

– اقترب مني لتعرف، ستظل الهواجس وسيظل الخوف يمنعك عني إن لم تعرفني جيدًا وتعرف كيف يمكن أن تكون موجودًا؟

على الرغم من أنني لا أدري على وجه الدقة ما المصائب التي قد تلحق بي لأنني خالفت الأوامر ودخلت إلى هذه الحجرة خلف فناء القصر؛ فقد علق عليها السيد لافتة مكتوب عليها خطر ممنوع الاقتراب وأحاطها بأسلاك شائكة.

منعني الخوف من الاقتراب لهذه الحجرة المريبة طول الفترة الماضية؛ لم يدفعني الفضول يومًا لمعرفة ما يوجد بداخلها، الفضول أحيانًا يكون مهم، لكن هذه الليلة دفعني مصيري لدخول هذه الحجرة.

سمعت كثيرًا من يحذّر بعدم الاقتراب من هذه الغرفة ومن فيها قيل «لم ينج أحد حاول دخولها والاستماع لصوت من فيها من غضب السيد وعقابه»، صحيح لا أحد يعلم ما مصير من فعل ذلك!

البعض يقول إن السيد قتلهم والبعض يقول أن هناك لعنة أحلّت بهم وقليل يشكك في هذه الرواية ويؤكد أن هناك سر من يحصل عليه تتغير حياته ولا يبقى معهم.

إذًا ما هي الحقيقة؟

–  تريد أن تعرف؟

– نعم أريد.

– فك قيدي لكي تعرف.

– اثبت لي حسن نيتك أولًا، اثبت لي أنك لن تؤذيني.

– الإثبات الوحيد هو وجودك هنا الآن.

– لا أفهمك.

– أنت هنا رغم خوفك، أنت هنا لست تابعًا أنت هنا سيد لنفسك، أنت هنا لا ترى وجودك لأن الوجود أن تمتلكني لكي يكون لك ظلٌ على الأرض ولا تكون مجرد ظلًا للآخرين؛ أنت هنا لترى كيف تكون الحياة، حياة وجودك فيها يلزم حقوقًا تتحقق وجودك فيها، يلزم أثرًا يترك.

– إذًا أنت هو العصيان.

– هكذا خدعوك لتظل ظلًا تتبعهم، فهم من غيرك كظلهم يفقدوا وجودهم لتكتسب أنت وجودك.

– إذًا من تكون؟ فكلامك كهذا الكلام المحرم الذي لا يجب أن نتكلم به.

– أنا خيال الظل.

– خيال الظل؟

– نعم فأنت من غيري ستظل مجرد ظل ليس لك وجود؛ فإذا حررتني سيتشكل وجودك وسيكون له أثرًا وحيزًا تستطيع وقتها أن ترى نفسك.

– أتقصد أني لا أعيش الحياة؟

– الحياة طُرق مليئة بمنعطفات كثيرة وطُرق لا حصر لها لن تستطيع أن تعبرها بدوني، بدوني لا أحد يستطيع أن يتخذ مسارًا بدون أن يخاطر ولن يخاطر دون أن يملك الشجاعة، ولن يملك الشجاعة دون أن يكون له خيال يهيئ له الحياة التي يجب أن يخاطر من أجلها، ولا يجب أن يبقى ساكنًا لا يتحرك إلا كما يتحرك الظل وراء صاحبه، إن لكل ظل طريق يجب أن يسلكه لكي يتحرر، فإما أن يمر به ويجعله يُزهر حتى وإن كان صحراء قاحلة، أو يمر به وكأنه ظل ينعكس على الأرض لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يترك أثرًا واحدًا.

هكذا ستجد نفسك تمر مرور الكرام وكأنك لم تكن يوماً هناك..

هناك الكثيرون الذين عبروا تلك الحياة ثم رحلوا عنها وانتقلوا في الغابرين، فهؤلاء كان من بينهم أناسٌ إذا تتبعت سيرهم ستجدها متلاشية وكأنهم كانوا كالسراب في تلك الحياة الواسعة، هؤلاء هم الذين ساروا على طريقٍ غير طريقهم المرسوم أمامهم، وفقدوا غايتهم واندثرت أهدافهم في قبور الحياة، هؤلاء لم يأتوا إلى تلك الحجرة ظلت تلك الحجرة في حياتهم محظورة ولم يستطع أحد منهم أن يحررني وهناك آخرون اقتحموا الحجرة وحرروني من قيدي فجعلت لهم آثارًا بارزة ذات ملامح برَّاقة وواضحة وإن كانوا قد رحلوا ولكنهم لم يرحلوا دون ترك آثارهم المميزة وبصماتهم التي تدل على وجودهم.

– هذا أمر متعب ومرهق، وربما يكون خطرًا.

– ربما سأكون مرهقًا ومتعبًا لك بعد أن تحررني وربما ستواجه معي خطورة لكن لن يكون للحياة التي تعيشها أي أهمية وستتلاشى معانيها إذا ما بقيت في غياهب السكون تنتظر على أعتاب الحياة، تجري بك الدنيا ولا تستطيع اللحاق بها كما لو كنت كالحجارة المترامية على أطراف الطرقات ليس لك حولٌ ولا قوة.. فهل حقًا هكذا تظن أنك موجود وحي؟

– ولِم لا! فها أنا كنت أعيش حتى ولو كنت لا أرى نفسي.

– لكن لو كنت بالفعل حيًا فما هي علامة وجودك في هذا العالم! لا تقل الطعام ولا الشراب ولا النوم ولا غيرها من تلك الصفات التي يتمتع بها الذين يعيشون مجرد ظلالًا على الأرض يدوس عليهم الآخرون، فهذه الأمور ليست دليلاً على العيش ولا برهانًا على أنهم أحياءٌ يرزقون، إذا لم يكن هناك أثر؛ ليس هناك وجود.

– ممكن أن أكون موجودًا دون أن أخاطر وأحررك

– لن تستطيع صدقني؛ فأنا الخيال.. أنا مقياس الطموح ورؤية آفاق المستقبل للإنسان، أنا المولد الحقيقي لكثير من المقترحات والأفكار التي كانت مجرد رموز وإيماءات في عالم الحالمين. أنا الخيال بداية الإبداع، إنك عن طريقي تتخيل ما ترغب فيه، وترغب فيما تتخيله، ثم تسعى لتحقق ما ترغب فيه.

– أنت مجرد حلم ليس لك وجود.

– لست حلمًا من روافد النوم، ولست رؤية مطلقة لا يربطها بالحياة الحسية رابط، أنك تخطئ خطأً جسيمًا إذا اعتقدت أني وهمًا منفصلًا عن الواقع، أنا أحفظ ما يمكن أن تدركه من صور بعد أن تختفي عن حواسك المادة، أنا هنا لست من فراغ، إنما أنا أتفاعل مع عقلك فتتولد الإبداعات والأفكار التي تجعل لوجودك أثرًا.  

صدقوني أنا أقف على أعتاب هذه الحجرة يدفعني الشغف لأحرر هذا الكائن ويجمدني الخوف أن يضعوني في قائمة المتمردين فهل أبقى ظلًا؟ أم أحرر هذا الخيال لأكون موجودًا؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى