إبداع

رجل القارب

حكاية لم يطوها الزمن بين صفحاته الطوال

أحمد خلف
Latest posts by أحمد خلف (see all)

هذه حكاية رواها لي خوزيه ساراماغو في تونس في مطلع تسعينيات القرن العشرين واعتقدت أن الزمن قد طواها بين صفحاته الطوال ولكن لا.

لم يكن الزمن هذه المرة بقادر على تحدي الذاكرة، لما تعارفنا تلك اللحظة قال لي خوزيه ساراماغو : إنه اعتاد المجيء إلى تونس وقضاء بعض الوقت فيها، ألا تتفق معي أن بلدان الأبيض المتوسط تمتاز عن غيرها بالمناخ الصحي النقي؟ ثم بعد برهة: ترى هل هذا جزء من مؤامرة دولية على البلدان الفقيرة، مثلًا؟ أعني أنهم يشغلوننا بأمور تخص المناخ والطبيعة، ويتناسون الناس في البلدان التي تعاني من الآفات والأمراض وحالات الفقر والأمية؟

قلت له:

ــــ خوزيه.. هل تؤمن بما تقول؟ أية مؤامرة تعني؟

قال:

ــــ لا تنادني خوزيه إنما نادني بأسمي الآخر ساراماغو، هناك أكثر من مليون ونصف مليون برتغالي وإسباني باسم خوزيه، نحن مولعون بالأسماء التي لها وقع خاص في نفوسنا، لذا ترانا نعشق الموسيقى والرقص والغناء، ألا تعلم أن التوبادور خرجوا من معطفنا وذهبوا يجولون في أنحاء أمريكا اللاتينية..

     كنت أصغي إليه جيداً وقد علق في عنقه قطعة معدنيه هي صورة رجل محارب من الزمن الستيني، وفكرت فيما إذا كانت هذه صورة بوليفار أم أنها لشخص آخر يحبه وحين وضعت سؤاله في رأسي نسيت ذلك تحت تأثير كلامه المتدفق وربما لم ارغب بمقاطعته، كان ساراماغو يتحدث عن ذلك الزمن باستمرار لكنه تأملني ونظر إلى ثيابي متمعنًا بهندامي، هز رأسه:

 ـــ أنت لست من هنا، أعني لست تونسيًا. أليس كذلك؟

قلت له في الحال:

ــــ كلا سارماغو أنا من بلد آخر!

ــــ إذن نحن غريبان عن هنا؟

ثم تأملني لبعض الوقت:

ــــ لماذا تنظر إلى الصورة المعلقة في السلسلة الذهبية في عنقي؟ أتعرف لمن هذه الصورة؟

اقتربت منه  أكثر بحيث رأيت جمال الوجه تمامًا؛ إنه رجل في الثلاثين من عمره..

قلت له :

 ــ لا أعرف صاحب هذه الصورة ساراماغو..

ــ أنه إغناثيو ميخانس الذي قتله الثور في حلبة المصارعه وهو الذي رثاه لوركا سنة  1935 أنا أحب المصارع الجميل / القتيل كما أحب قصيدة لوركا المدهشة..

       كنت أنا الذي دعوته إلى مائدتي وقد عرفت بعض ملامحه، كانت المقهى مزدحمة بالرواد ووجدته يدير رأسه ويفتش في أركان المقهى وزواياه يبحث عن مقعد ليتخذ جلسته هناك، أشرت عليه أن يأتي ويشاركني  منضدة جلوسي، الغريب أنه وافق حالًا، ربما لأنه لم يعثر على مكان شاغر مما اضطره لقبول دعوتي بلا مقدمات، ومثلما قبل الدعوة بالجلوس على مائدتي تم تعارفنا معًا أسرع مما توقعت.. 

        ملامحه القاسية والحادة بعض الشيء توحي لمن يراه للمرة الأولى أنه رجل لا يخلو من المجالدة أو لديه طاقة على تحمل المفاجآت أو الصدمات التي تأتي على حين غرة..

       كان يتناول كوب الشاي المخلوط بالسكر والحليب على مهل رغم أني انتبهت إلى انشداد أصابعه إلى عروة الكوب، ومثله فعلت أن تناولت قدحي بنوع من الاهتمام والعناية، ورحت أحتسي الشاي ببطء شديد لكي أستمتع بوقتي مع خوزيه سارماغو، كان متوترًا بعض الشيء لكنه كان يبذل جهده في ألا يظهر غضبه من الحمقى والمجانين، الذين كان يقول عنهم (( هؤلاء هم من يتحكمون بمصائرنا ))   ظل يهز رأسه متأملًا حركة المارة بالقرب منه..

قلت له :

ـــ عزيزي ساراماغو يبدو أنك نسيت الحكاية التي أردت أن تحدثني عنها؟

ـــــ أبدًا لم أنس يا عزيزي ولكن فن القص يحتاج إلى مزيد من الصبر والتأمل.. 

 

ثم لما نظرت إليه بادلني حركة العين والوجه، كان كثير التدخين، وقد جاء على قدح الشاي كله ليشعل بعده سجارة جديده فكرت في أن أسأله لماذا يكثر من التدخين؟ غير أني وجدت ذلك صعبًا علي..

قال لي:

ــــ (( مثلما لا تصنع العادة كاهنًا، فإن الصولجان لا يصنع الملك، هذه حقيقة يجب ألا ننساها ))..

أتم عبارته الأخرى:

ــــ أتعني حكاية رجل القارب؟

ـــــ ما أدراني أي حكاية ستقص علي يا عزيزي ساراماغو، أنت تعلم أن الحكايات كثيرة لا تحصى.

ـــــ هل قلت لي أنك لست من هنا؟

ـــــ نعم لست من هذه البلاد.

ـــــ إذن أنت من هناك ولست من هنا؟

ثم صمت برهة وأردف يقول:

ـــــ وستحدثني عنك وعن الأرض التي كنت تعيش فيها هناك وعن أهلها وحياتهم. هززت رأسي علامة الموافقة على طلبه..

ـــــ هل تعرف ما القارب إذا حدثتك عن القارب وصانعه؟ هل لديك فكرة من ماذا يكون القارب وكيف يصنع؟

 ضحكت من قلبي على الأسئلة الغريبة التي ألقاها عليّ سارماغو وقد راحت عيناه الحادتا النظرة تحدقان بالمارة عن عمد.. وقال لي: يبدو أن أمثالك لا يشبعون من رواية القصص وسرد الحكايات..

ترى هل تميل يا سيدي إلى القصص الواقعية كسواك من الكتاب الآخرين؟ حسنا.. اطلب لي فنجان قهوة على حسابك الشخصي وسوف أحكي لك حكاية رجل القارب بالتمام.. ولا أدري لماذا خيل إليّ أنه نسي أصل الحكاية في خضم انفعالاته وحديثه عن المجانين المعتوهين من الرأسماليين الذين يحكموننا بكل غباء ولا عقلانية تتطلبها حالة الناس في البلدان التي تعاني من أزمات الجوع والأمراض الفتاكة بسبب الفاسدين وانتشار الفساد المالي واستفحال اللصوصية بين الحكام ..

        تلك كانت إشارات تفوه بها لسان سارماغو ولست أنا من يقولها الآن بل تحتم علي البوح بها لمعرفة إن كان صاحبي قد نسي حكاية القارب أم أنه ما زال يحاول أن يقدمها بطريقة مناسبة لجلستنا هذه.. عاد ودعك أرنبة أنفه بقوة هذه المرة وحدَّق بالمارة لبعض الوقت:

ــــ ايها العربي هل تعرف لوي بورخس؟

ــــ آه أعرفه بالطبع قرأت له: تقرير برودواي وكتاب الرمل وقصته الشهيرة مكتبة بابل أول ما تعرفت عليه من خلالها..

ــــ إذن أنت تعرف الرجل الضرير جيدًا..

ــــ إنه رجل مدهش يا سارماغو ..

ابتسم لي ابتسامة عريضة ووضع يده على ذراعي قائلًا:

ــــ حكاية القارب إحدى حكاياته التي تقول أن رجلًا من عامة الناس جاء إلى قصر الملك وطلب منه أن يمنحه قارباً من قواربه، سأله الملك ولماذا تريد منا قاربًا يا رجل؟

قال الرجل: أريد أن أكتشف الجزيرة المجهولة التي لم يصلها أحد من البحارة في كل مكان وزمان مضى، حتى السندباد البحري لم تطأ قدماه أرض تلك الجزيرة.!!

انفجر الملك بضحكة مدوية وصاح بالرجل: يا مجنون لا توجد جزيرة مجهولة في كل أنحاء المعمورة، لقد تم مسح كل الأراضي والخلجان والبحار بأمر منا.. هل تفهم يا رجل؟

لوح الرجل ذراعه في الفضاء وحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال وزم شفتيه:

ـــ يا مولاي أنت قاعد في قصرك المنيف وتصدر أحكامك القطعية في شؤون الرعية ولا تدري ثمة جزر ظهرت إلى الوجود من جديد وأن المكتشفين من أمثالي يبحثون عن فرصة مناسبة للوصول اليها لمعرفة كل شيء عنها..

صاح به الملك:

ـــ سنعطيك قاربًا من قواربنا ما دمت تصر على الإبحار وخذ معك من تريد من الرجال. هيا زودوه بقارب من قواربنا حسنة الصنع هيا..

ـــــ لا تعود هذه الحكاية إلى بورخس كما قلت لي..

ـــــ إذن هي من حكايات صاحبي العزيز كارلوس فوينتس؟

ـــــ أبدًا ليست من تداعيات صاحب أرتيمو كروز والغريكو العجوز، لا أظنه قد تداعت أفكاره بحكاية من هذا النوع..

ـــــ عليك أن تعرف قبل أن أكمل الحكاية كلها..

ـــــ إنها بالتاكيد من حكايات خوزيه سارماغو.

  نعم يا سيدي خوزيه..

التفت إليه كان قد غط في إغفائة عميقة وجدت من الصعب علي إيقاظه الآن من سباته الذي بدأ يغرق فيه سريعاً وأنا بانتظار أن يكمل الحكاية كلها..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى