إبداع

روزالين

كان النغم وهذه الأنثى بلون القهوة ونكهة البن الحبشي

محمود شامي عبد القادر
Latest posts by محمود شامي عبد القادر (see all)

في صباح يوم الأربعاء واليوم الذي أتفاءل به دائمًا باعتباره يوم مولدي، وفي يوم شتوي منه، ويوم ماطر وجميل من عام 2018 سافرت في مهمة عمل إلى العاصمة أديس، رأيتها ذلك اليوم في محطة نقاد جيبوتي، رفقة شاب وشابة كانا يتحدثان معًا ومعها، وكانت تنصت إليهما وتستمع أكثر مما تتكلم، كل ما نستطيع قوله عن شكلها هيئتها ملامحها طلتها وجمالها أنه يمثل منطقة قرننا الإفريقي بأكملها .

وتساءلت حينها: هل كانت هذه الأنثى تودع أحدهم أم تسافر معنا؟ وفور رؤيتها تبادر إلى ذهني نغم قديم يتجدد، نغم جيبوتي يدعى هيلا فهو نغم نائي حزين ويجسد الشعور بالفقد والحرمان من الباب الواسع ويبدأ بالخيبة: إذا ما رأيتموها بلغوا سلامي لها، فأنا عجزت عن الوصول إليها.

بداية النغم

 هكذا يبدأ النغم وهكذا ينتهي، وعاجز أنا عن وصفه ووصف ما تذخر به الأغنية هيلا، وهذه التي أمامي في محطة نقاد، من حسن وبهاء وجمال، وما أشبه اليوم بالبارحة كما يقال، وما أشبه هذه الأنثى بتلك أو هيلا، فهذه الأنثى كما بدا لي أو أردت لها ذلك كانت آنسة، وجمعني بها القدر في محطة نقاد وها هي تسافر معي في رحلة طويلة وشاقة تمتد لتسع ساعات بالقطار الجديد، الرابط بين العاصمتين جيبوتي وأديس وتشغل مقعدًا محاذيًا موازيًا لمقعدي تحمل كل مواصفات هيلا من جمال مدمج هجين وكوكتيل مثل هيلا تمامًا، جمال جيبوتي وجمال قرن إفريقي محبب وشهي.

كان النغم وهذه الأنثى بلون القهوة ونكهة البن الحبشي، وبطعم الشيكولا وبرائحة عبق بخور بونتلاند وبخور المسك والعنبر والطيب ومنعش جمالها كالكولا.

 وكانت بشعر أسود حريري قصير وشبه دائري أو كوب قارسون coupe garcon، وبفستان أسود خفيف مكشوف الظهر ويصل إلى الركبة بالكاد، وحقيبة يد وساعة معصم بيضاوان يتسللهما السواد على استحياء و أي فون 9 يحمل ذلك اللونين.

حيرتني أنثى تجسد ذلك النغم كالجمل بما حمل وأنا أمامها خطرت بذهني أغنية هيلا لموسيقار جيبوتي وقومية العفر الراحل عبد الله لي وهو يغني ويتغني لفتاة رآها صدفة بين الجموع في أمسية مضت، كان يغني وكانت تردد روائعه، ومندمجة معه في أمسية استثنائية ولت ومضت، في مسرح سالين الشهير بالعاصمة جيبوتي، وفي نهاية الحفل في تلك الأمسية اختفى طيف عبد الله بين الجموع وتبخر في لحظات، قبل أن يتمكن عبد الله من التعرف على هويتها المفعمة بالحياة والحيوية وقبل معرفة اسمها وعنوانها، كل ما بقي معه منها، وما ظل يعرفه عنها أنها أسرت قلبه وكبلت كل حواسه وحبست الدم في شرايينه وأوردته.

الأنثى المجهولة

وفي أمسية أخرى بعد رحيل طيفه رحل عبد الله باحثًا عنها في النغم طبعًا، إلى كل مدن جيبوتي ومحيطها، فلم يعثر عليها ولم يجد خبرًا عنها، ويبدو أنها ظهرت في محطة نقاد بعد أداء عبد الله لذلك النغم ب 33 عامًا، وبعد رحيل عبد الله عن دنيانا  بـ11 عامًا.

كانت تلك الأنثى تستعمل سماعة طوال الرحلة ربما تفعل ذلك لتقتل ملل الرحلة وتعبها بالسماع إلى شيء مسلي وإلى نغم موسيقى، جهلت هويته كما جهلت هوية هذه الأنثى ذلك الوقت، وحاولت معرفة هويتها من باب الفضول والمعرفة والأمل، فربما وعسى ولعل، نذهب معًا إلى نقاط بعيدة، ومن حسن حظي تحدثت مع مضيفة القطار بالفرنسية، لم تطل الحديث معها، كانت جملة واحدة، وكافية، لأدخل معها بطريقتي، وبلغة فرنسية أتقنها جيدًا كان ذلك اعتقادي قبل حديثي مع تلك الآنسة الديغولية التي فندت قناعاتي تمامًا، كان ذلك في محطة دوالي الحدودية الواقعة على بعد 98 كيلو من العاصمة جيبوتي.

النغم الجديد كانت آنسة وتعود إلى أديس أبابا حيث تقيم فيها منذ عامين وبقي من عقد عملها أقل من عام وتعود بعدها حيث تعيش، والنغم شابة رواندية تنتمي إلى قبيلة وعرق التوتسي، والتوتسي 10% والهوتو (80%) وهما المكونان الرئيسيان لرواندا إلى جانب أقليات أخرى تشكل 10% من سكان البلاد، وتنحدر تلك الآنسة من العاصمة كيغالي وفتاة تنتمي إلى منطقة البحيرات العظمى، ورواندا تحديدًا التي داوت آلامها وجراحاتها سريعًا وانطلقت كالصاروخ لتصعد من قاع الحفرة إلى سطح القمر وإلى الفضاء مسجلة أعلى نمو اقتصادي وسريع في إفريقيا ومقصدًا لرجال الأعمال في العالم، باعتبارها أفضل مكان آمن في العالم بعد أن كانت آخرها قبل 25 عامًا وهو عمر هذه الشابة الرواندية، ومكان شهد أشرس حرب أهلية عرفها التاريخ بين الهوتو والتوتس، قبل أن تعكس رواندا وجهًا آخر مغاير بكل ما تحمله كلمة التغيير من معنى.

الجمال الهادئ القاتل

ولم يكن النغم الجديد أو بالأحرى القديم الذي يتجدد من محيطنا، مثلما تخيلت، فهي توتسية رواندية تجمع كل تفاصيل وجزئيات الجمال الرواندي، وجمال قاتل ثائر هادئ مربك ولطيف وجذاب يمثل رواندا ووجهها الصباحي المشرق وجمال صاف ونقي مثل كيغالي حاضرة رواندا الجميلة وشوارعها النظيفة، وجمال ناصع ساطع مثل صفحة بيضاء كشعبها الذي أغلق صفحة الجراح وبدأ بأخرى بيضاء.

 كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة منقطعة النظير وبفرنسية ديغولية وبلكنة باريزية حيث ولدت في ضاحية سانت إتيان الجميلة، وتعمل في أديس لصالح شركة محروقات فرنسية، وكانت زائرة سائحة قدمت هنا إلى جيبوتي بدعوة من صديقتها الجيبوتية الفرنسية فاطمة خيري، كانت روزا إنسانة منفتحة وأنا من كنت معقدًا، حين أطلت التفكير في كيفية التحدث معها،  وقررت أن أجرب ذلك والحديث معها، وعندما طلبت منها أن نتحدث معًا لدقائق، رحبت بي ووضعت التلفون وسماعته على طاولتها، وقالت لي لِما لا يكون ذلك ساعة وابتسمت. 

وتابعت قائلة: الطريق طويل على ما يبدو وسرعة قطاركم الكهربائي هذا أقل مما تصورته وما أعرفه بفرنسا، وربما لم يحن الوقت لتصل سرعة قطارنا وسرعتنا أكثر من هذه السرعة.

 كان مظهرها أنيقًا وجوهرها بسيطًا وشخصيتها قوية وواثقة من نفسها، الآنسة روزالين مسيحية بروتوستانتية غير مطبقة وكنت مسلمًا سنيًا، ومثلها لم أكن مطبقًا اللهم إلا صيام رمضان وبعض الأمور البسيطة.

رحلة حب

 في أديس أبابا تعمل وتقيم روزا في حي بولي قرب مطار بولي، ومكتب شركتنا في وسط العاصمة وفي منطقة بياسا، وتوطدت علاقتي بروزا في أديس، وأرتدنا معًا جل الأماكن السياحية فيها وفي أجواء مشمسة وغائمة وماطرة، وسافرنا معًا خارج أديس وإلى مدينة بحردار وشلالاتها وبحيرتها التي ينبع منها نهر النيل وقضينا بها يومين تارة، وثلاث تارة أخرى، وآخر لقاؤنا وآخر أسبوع لنا معا بإثيوبيا كان في أواسا بالجنوب الإثيوبي، كان ذلك في شهرنا الثالث، ونهاية مهمتي بأديس، وبعدها كان علي العودة إلى موقعي في جيبوتي.

وقبيل عودتي بيومين أخبرتني روزا بأمر مهم وفي غاية الأهمية، أخبرتني أنها تشعر بشيء ما وتحس بأعراض الحمل، يا له من خبر صعب وبائس ويائس، ولأول مرة في حياتي لم أعرف وأتعرف على شعوري، هل كان يشكل ألم أم غبطة، على كل حال كان صدمة ممزوجة بالفرح، ومذاق البلو الحبشي الحار، بعسل النحل أو طعم أي خلطة غير مفهومة، كنت أعشق روزا ومتيم بعشقها، ولكنني لم أكن أحب أن يتم ارتباطنا بهكذا طريقة، كنت أحلم ومعها بشيء أكبر، ومع ذلك كان ذلك نهاية حماقاتنا أنا وروزا.

الاختيار 

روزالين قدري ولن أتخلى عنها في كل الأحوال، وقررنا أنا وهي على المضي قدمًا في علاقتنا، وأن نلتقي بعد سنة تقريبًا في باريس، ونرتب لإقامة علاقة أبدية معًا، وبعد عودتي بثلاث أشهر ستعود روزا إلى باريس وأنا فعلت الممكن وصنعت اللا ممكن ووصلت إلى باريس في نوفمبر 2019 وبعد عام ونصف من لقائنا الأخير في أديس، وابني داوود كان يحبو وفي شهره الثامن، واختارت روزا بعد مجيئي إليها باريس، الإقامة والعمل في بلجيكا.

روزالين تغيرت من ناحيتي لاحظت ذلك في لقائنا البكر في باريس، لم تكن ولم تعد أبدًا روزا تلك الشابة التي عرفتها في أديس قبل عامين تقريبًا من الآن، واتفقنا أنا وروزا أن يختار ابننا ديانته واسمه بعدما يبلغ سن الرشد القانوني كان ابني داوود أو دافيد كما تسميه روزا يحبو عند مجيئ إليهما وشعرت بعاطفة جارفة تجاهه، ووازى شعوري ذاك شعوري تجاه روزا، مع أني رأيته بالكاد يومين لا ثالث لهما، وغادرت روزا مع طفلنا إلى بلجيكا وأنا ماكث في باريس، أرتب أوراقي وألملمها بعدما حاولت كثيرًا مع روزا، ولم نتوصل إلى حل نهائي، و لا زال البحث جاريًا عن الحل..

          النهاية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى