
- قراءة في رواية «أسبوع شتوي» - 13 مارس، 2022
- زقاق - 25 أغسطس، 2021
أنا زقاقٌ ضيّقٌ لكنني رحبٌ مثل رحابةِ هذا العالمِ. يقولُ عني زقاقٌ أقدمٌ بأنني نشأتُ متواضعًا وترعرعتُ متباطئًا، فالبيوتُ القليلةُ على امتداد الجانبين واسعةُ المساحةِ، جدرانها بهيةٌ، مشرقةٌ عند النهار، تستنشقُ هواءها من حدائقها الأمامية.
الهسيسُ متواصلٌ مع النفس في بداية العهدِ. أشكو الوجعَ المقيمَ، مُترَبٌ في الصيفِ، موحلٌ في الشتاء، مُهمَلٌ، رُميتُ على أطراف المدينة حيث لا صخب مثير ولا هوس ضجيج مكائن السيارات العابرة.
وغالبًا ما تهمسُ همسةٌ رقيقةٌ:
«لا بأس، فلربما يختلط هذا بذاك فتخلص إلى نتيجة بأنك كائن حيوي خاضع للتغيير، للتمدد والانكماش أو لاتخاذ سبيلٍ بطيءٍ سلسٍ، أو سريعٍ، في التحسن أو التدمير».
لكنني، في كل الأوقات، لي رؤى توظفُ سجلًا في الذاكرةِ مكتنزًا بالمعرفةِ، إضافةً إلى أنني ودودٌ وكذلك صابرٌ، لا أضجر من ثقلِ أقدامِ العابرين فقد لفظت ذاكرتي مرةً.. هناك عابرون ما أن يتخطون عتبتي حتى أبادرهم بالتحيةِ: مرحبًا، ونتبادل النظرات.
لا أزعم أنني أرى كلَّ العابرين ثانيةً، فلربما يسلك بعضُهم زقاقًا مغايرًا عند العودةِ. حكى لي شغوفٌ بسرد الروايات أن واحدًا منهم، وبعد أن جرجرالنهارُ خطاه ببطءٍ، راقه أن يردَّ على تحيتي الصباحيةِ التي بادرته بها عند الصباح الباكر، أو لم يرقه.
أعرف أنه كان مُتعَبًا ، على الرغم من كونه مُتَلهفًا، فتاه وانخرطَ في مسارٍ عِبرَ مَعبَرٍ ينتصبُ في الجانبِ الآخر. ومن يومها لم نلتقِ مرةً أخرى.
بيد أن مُتعَبًا آخر، كان يتقدُ بالهمةِ عند الصباحِ الباكر عاد، مرةً، يحملُ أثقاله بعد يومٍ مُجهِدٍ، ما أن تخطاني واستدارَ يسارًا حتى تمنيتُ له حسنَ المسيرةِ، تصورته يطرقُ بابَ منزله، يُفتَحُ البابُ، يحتضنُ اطفالَه. ربما قدّمَ لهم قطعًا من الحلوى الرخيصةِ أو اللذيذةِ أو كليهما، والمهمُ أنه يستحمُ ثم يتناولُ الطعامَ ويحتسي الشاي ثم يستكين على السرير.
راقَ لي مشهدٌ يتكررُ كلَّ يومٍ لرجلٍ احتلَّ بقعةً طريةً من الذاكرةِ. لم يحدث له أن وطأ تربتي، كان يسيرُ بمحاذاتي في الشارعِ العريضِ. هو مثلي منتصبُ القامةِ، مرفوعُ الرأسِ، تلاطفه الأرضُ، فهو خفيف الوطأةِ، سريع الحركةِ، قصيرةٌ خطواته، يمرُّ صامتاً يشدُّ على شفتيه كأنهما جزء من العدمِ أو أنه ارتضى تعطيلهما لحين الزمن القادمِ، عيناه لؤلؤتان تتوهجان في مطلع النهار، يحملُ حقيبةً كالحةً في يده، هي في الحقيقة حاضنة عدة العمل، فأس، مطرقة، ثاقب، وأدوات أخرى يقتضيها عمل البناء.
وأنا مرهفُ الحسِ، أحسنُ الإصغاء، أستديرُ وأسمعه يكررُ: «بدايةٌ سليمةٌ تسيرُ بي، دائمًا، إلى صرحٍ متقنِ الصنعِ»
يتساءلُ زقاقٌ مجاورٌ: «منذ متى وهو على هذه الحالةِ؟»
أجيبه : «منذ أن اتكأ على حقيبةِ والدهِ»
الذين يساكنونني لي معهم حكايةٌ أخرى. أنا وإياهم على وشيجةٍ واحدةٍ.
في الركن الجنوبي يصاحبني صاحبُ حانوتٍ، يعرضُ أشياءه على الرفوف في الداخلِ، وأخرى أمامه في الفضاء الفاره، أنتشي بمشهدِ الأطفالِ:
– عمو، هاك واعطني نفاخةً.
يأخذُ ورقةً نقديةً، يلتقطُ نفاخةً خامدةً، يعبُّ نفسًا قويًا في أحشائها، تنتفخُ، يلوي جزءها الأنبوبي الأعلى ويحكمُ شدَّه. تأخذها الصغيرةُ بمرحٍ، وهو يحدّقُ بوجهها المشرقِ، يبتسمُ:
– خذي يا حلوتي.
يشتري صغيرٌ قناعًا، هو وجه مهرجٍ ضاحكٍ..
يغطي به وجهه، يضحك الأطفالُ الآخرون بهوسٍ، والكبارُ يشترون موادًا غذائيةً.
هنا، عند الجوار، مخبزٌ. أحمله ويحملني. ينفثُ دفأه المحببَ في الشتاء، وفي الصيفِ ألوذ بالصبرِ. يطيبُ لي اهتمامه بالواقع الراهنِ. يأخذ منه الناسُ الصمون والكعك والكعك المسمسم، وفي طريق عودتهم إلى منازلهم أرى ابتسامةً خفيفةً ترتسمُ على وجوههم.
هناك في الطرفِ الآخر مني منزلٌ ليلُه صاخبٌ، يبدو أن أحدَ ساكنيه يحتسي الخمرَ ويعربدُ، وفي الصباح يخرج ببنطاله المتهرئ وحذائه المشّوه وقميصه الممزق. يبتسمُ ملوحًا بيده:
«لابد أن تعرفَ نفسك أولًا، ومن بعد ذلك يأتي النصرُ»
ابتسامته لها معادلٌ عند كلِّ أؤلئك الذين يمرُّ بهم، بيد أنه لا يدرك، كما يبدو، ماذا يقولُ وماذا يفعلُ؟
لقد وردَ إنه امرئ مارسَ لعبةَ الحربِ التي هاجت قبل سنوات فلحقت رصاصةٌ جانب رأسه الأيمن وطابَ لها المستقرُ.
بعد أعوامٍ وأعوامٍ يحدثُ الشيء المغايرُ على نحوٍ مفاجئ، ربما على نحوٍ غيرِ مفاجئ. لاحظتُ تباطأ الناس في مشيهم وكذلك التيه في نظراتهم، أصغيتُ إلى همسهم.
سألت صاحبي:
– ما الأمر؟
أجاب:
– ستعرفُ.
ارتضيتُ لنفسي معاينة جدران المنازل الممتدة علّي أقرأ ما في السرِّ. والسرُّ عرفته في منتصفِ ليلةٍ وادعةٍ بعد أن صدحَ صوتٌ صاخبٌ من مكانٍ بعيدٍ.
الأصواتُ الزاعقةُ تقتربُ، ضوءُ الليلِ ينقطعُ، يخفتُ الهمسُ، ورحتُ في محاولةٍ للغوصِ في كنه الحقيقةِ.
شرعتُ بإطلالة داخلَ أحدِ المنازلِ. رأيتُ صاحبَه الأشيبَ يقفزُ من على سريره، يهرعُ إلى النافذةِ، يفتح ظلفتيها إلى الآخرِ، والسماء، هنا وهناك، تلتهبُ بفعلِ طائرات تقصفُ وصواريخ آتيةٌ على مهلٍ تهزُ. رأيتُ امرأةً.. كلا، رأيتُ عينيها تحاوران الأشياء المغلفة بالظلامِ، تلملمُ نفسها، تحتضنُ طفليها، تستجيرُ بركن غرفة النومِ في الطابق الأسفلِ، تتكوّر.. والغطاءُ يضمُّ الثلاثةَ.
الرجلُ الأشيبُ يتحركُ من غرفةٍ إلى غرفةٍ أخرى، يبتسمُ ابتسامةً شوهاء لم يألفها من قبلُ، ينظر إلى الأشياء من حوله: إلى الآثاثِ المستقرةِ وإلى صورته وزوجته يوم اللقاء الأول. يسمعُ صوتًا هامسًا في داخله، يسألُ، وأنا أيضًا أسمعُ وأسألُ:
– أيخضعُ هذا إلى ال.. لا.. منطقِ!
ومن الطرف الآخر لم أعد أسمعُ صوت السكيرِ المعربِدِ، كلا، ربما الذي سمعته قبل لحظاتٍ، وحسبته شخيرًا، كان ضحكته الأخيرة بعد انهيار سقف المنزلِ.
الآن أهمسُ بأذن أنيسي، وأنا مُتعَبٌ للغايةِ:
– دعني أطارحكَ الحديثَ عن العبثِ والمصيبةِ القدريةِ..
وأضحكُ ضحكةً باكيةً، وأنيسي المتربصُ يخرسُ.
مع إطلالة الصباحِ أنهضُ، متأثرًا بصخبِ الليلةِ البارحةِ.
الهواءُ ساكنٌ، رائحةٌ غريبةٌ تفيضُ، ما الذي حدث؟ ما الذي يحدثُ وسيحدثُ؟
الأبوابُ تنتصبُ مُغلَقةً، الفضاءُ فارغٌ.. فقط رجالٌ يفتحونَ أبوابَ منازلهم بحذرٍ، خطاهم وئيدةٌ، أبصارهم خفيضةٌ، قلوبهم.. ليس بمقدوري التأكد من ذلك.
وفي الصباح، أيضًا، يتخذُ الرجلُ الأشيبُ، وقد ناله شرخٌ، طريقه نحو الفرن غير آبهٍ بكياني المزعزعِ، وأطرافي وأحشائي الممزقةِ.
تفاجئه حجارةُ الأبنيةِ التي غدت وجوهًا مشوّهةً خلفها دخانُ الأيامِ الماضيةِ بُقعًا ملطخةً بألوانٍ قاتمةٍ، تبدو عليها أتربةٌ قذرةٌ.
والرصيفُ يتلبسُ بشكلٍ باهتٍ.
الواجمون الصامدون، أمام الواجهةِ، يحكون حكاياتهم المترعةَ بالألمِ بهمسٍ، إذ لم تكن للفرنِ قدرةٌ كلّيةٌ على العطاء الآن.
صاحبُ الحانوتِ يدعو الأطفالَ لشراء متفجرات صوتية وأسلحةٍ بلاستيكية.
ويصخبُ (البلاستيكو)، ساخرًا، محاكيًا الواقع.
يتصايحُ الأطفالُ، يتشكلون فريقين: مهاجمٌ ومتراجعٌ، يتراكضون، يتبادلون الأدوارَ– مختزلين الزمن– وقد أخذ بهم الهوسُ.
أما أنا، فها أنذا.. زقاقٌ ضامَهُ الزمنُ.