
- أبو المساكين - 24 ديسمبر، 2022
- ماري… جميلة من «خواجات اسكندرية» - 20 يونيو، 2022
- غالية يا مصر - 23 يناير، 2021
نشأت فاتن وترعرعت في أسرة كريمة، فالأب كان طبيبًا والكل يحبه ويحترمه، وتعلمت فاتن في مدارس أجنبية وكانت تتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية، متفوقة في دراستها ودائمًا من الأوائل، فكانت مضرب الأمثال في التفوق والأخلاق الكريمة.
ورغم الغنى وكثرة المال لم تتكبر يومًا على من هم دونها، بل على العكس كانت تعطف عليهم وتعطيهم من مالها الخاص. فصارت محبوبة الفقراء. وتزوجت وأنجبت ثلاثة أطفال كانوا قرة عين لها، وكان لها عم يزورها بين الحين والآخر، وكانت تحبه بل تعشقه، فهي تحب أهلها حبًا كبيرًا. وكان عمها يعمل بوزارة التربية والتعليم، وكان ضليعًا في اللغة العربية، جاء إليها وكله شوق:
– حبيبتي… إزيك وحشتيني.
– إنت إللي واحشني يا عمو،أرجوك ابقى معي ولو لأيام قليلة، ولا تستعجل رحيلك.
– يا حبيبتي، أنا قاعد معاكي المره دي لأني جئت مع أصدقائي لأن عندنا حضرة صوفية.
– ما معنى حضرة صوفية؟
– آه طبعًا، مانتي خواجايه، بس خواجايه محمدية.
وضحكت لهذا الوصف الذي وصفها به وظلت تضحك!.. وللمرة الثانية سألته:
– ما معنى صوفية؟
– الصوفية دي مشتقة من الصفاء، أي صفاء الروح وسموها، وهم قوم الحب مبدأهم، فهم متآخون في الله، ومتحابون في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
– الله يا عمو، حاجات جميلة، لو كلمتني كمان عنهم، احكي لي كل حاجة عنهم.
– أقولك، إيه رأيك الإمام ييجي يزورك مع بقية الأحباب؟
– ماشي… قالتها وهي مترددة، لكنها امتثلت لأجل خاطر عمها الحبيب، وقالت في نفسها:
يا فاتن دايما بيتك مفتوح لكل الناس، ما جتش على حبايب عمك. وكتمت هذا الشعور واتصلت بصديقاتها:
– إيه رأيكم تيجو بكره، في ناس مهمة جايين يزوروني؟
وفي اليوم التالي دق جرس الباب في الخامسة تمامًا، واستقبلهم عمها بفرح شديد، وترحاب شديد. كان الرجال ملتفين حول إمامهم بكل حب واحترام، وهو في وسطهم كالبدر في ليلة تمامه.
وتعجبت فاتن… من يكون هذا الرجل الذي لم تر مثله من قبل؟ إن له نورًا يضيء وجهه المضيء المبتسم، وله عينان تشعان حبًا وحنانًا.
كان السيد عز الدين يرتدي أفخم الثياب وأحلاها، وكان قمة في الأناقة وقمة في السماحة، وحين يقع نظرك عليه لا تستطيع أن تشيح بوجهك عنه. وتذكرت فاتن أم كلثوم وهي تشدو وكأنها تغني له: «وانت معايا يصعب عليا، رمشة عينيه ولا حتى ثانية… يصعب عليا ليغيب جمالك، ويغيب دلالك ولو شويه»!
وانتبهت على صوت عمها وهو يدعوهم للجلوس في الصالون، ولم تشعر بنفسها إلا وهي تجلس بجانبه، لا تتكلم ولا تنطق بحرف واحد. وسألها في بساطة:
– ما هي الشهادة التي حصلتي عليها؟
– ليسانس الآداب قسم اللغة الفرنسية، ثم دراسات عليا في الأدب الفرنسي والترجمة.
– أو تعملين؟
– لا… لا أعمل.
ومرت ساعات ودقائق وثواني وهي تستمع لأحلى الكلام.. الكلام الصوفي، ولم تجد أية غضاضة في حديثهم، بل على العكس وجدت حلاوة لم تتذوقها من قبل، حلاوة تقشعر لها الأبدان، وتمتلئ منها العيون بالدموع، إنه الوجد! وبكت فاتن كثيرًا، وشعرت بغربتها عن هذا العالم الذي تعيش فيه، واكتشفت أنها فعلًا صوفية، بل إنها عاشقة لهذا التصوف فهو يجري في دمها، لكنها لم تكن تعرف اسمه.
نعم، إنها ولدت اليوم، اليوم فقط، وتذكرت مقولة السيد المسيح: «لا يلج الملكوت إلا من ولد مرتين».
نعم إنها ولجت الملكوت وصعدت إلى السماء. ثم أخذوا ينشدون مواجيد رائعة لم تسمعها من قبل. كانوا ينشدون: على قدري أصوغ لك المديحا ومدحك صاغه ربي صريحا ومن أنا يا إمام الرسل حتى أوفي قدرك السامي شروحا.
وانتهت هذه الليلة وبقي عمها إلى جانبها، ولم تنم في هذه الليلة. لقد أصبحت صوفية من رأسها إلى قدميها، وتوجهت إلى المكتبات لتنهل من هذا الفكر الصوفي، وتفوقت على الكثيرين، وكانت فرحة الإمام بها كبيرة، وكانوا يطلقون عليها «الخوجاية المحمدية»، أو «صوفية هانم».
نعم، كانت فاتن هانم في كل شيء… في سلوكها… في تعليمها… في رقتها… في كل شيء، وكان الإمام يستقبلها بحفاوة ليس لها نظير. وكانت الغيرة تملأ قلوب من حوله، لماذا هي ونحن أقدم منها؟.. وكان يرد عليهم: «ليس الطريق لمن سبق، إنما الطريق لمن صدق».
وكانت حين تقرأ عن الصوفية تقف مشدوهة، كانت متيمة بقول الإمام: أهلا بأحبابي أهلا بزواري والمغرمين بأحوالي وأسواري في الله همتكم فيه زيارتكم قد طاب ممشاكم يا أهل أنواري وامتلأ قلبها بالتصوف والحب الإلهي، وحفظت الكثير من الحكم والمواجد.
مات الإمام وترك في قلبها غصة، وشعرت بالوحدة بعد أن كان يرعاها كابنته، فهو لم يرزق بأولاد، ولكنه رزق العلم والأنوار والأسرار، واختفى الأب الحنون الذي طالما أنار حياتها، ولكنه ترك لها الميراث الذي تعيش من خلاله، فورثت عنه الصوفية والحب، وهذا ميراث الغنى الكامل.
من المجموعة القصصية «خواجات اسكندرية»