إبداع
«صَيْد الغُروب».. شعاع أمل على صفحة النيل
أهكذا يصنعُ الحُبُّ؟ يضخُّ الحياةَ في الأرضِ البَوَار؟

Latest posts by حمدي شفيق (see all)
- «صَيْد الغُروب».. شعاع أمل على صفحة النيل - 17 يناير، 2021
- بكارة العشق - 6 يونيو، 2020
قبلَ أنْ تجمعَ شمسُ الأصيلِ متعلَّقَاتِها، وتُنْهِي نَوْبَتها لتَخْدِمَ في مكانٍ آخر، ألقَتْ بأضواءِ الشَّفَقِ الحَمْرَاءِ على صفحةِ النيل..
نادى الجرسونَ طالباً فنجاناً من القهوة، ثمَّ تحَوَّلَتْ عيناهُ تُحَمْلِقَانِ في بُقْعَةٍ من مياهِ النيل الَّتي يبدو أنَّها أتَتْهُ بما لم يكنْ يحْتَسِبُه..
سكنتْ كلُّ حركتِهِ، وبدا مُتَجَمِّداً كتمثالٍ في مُتْحَفِ الشَّمع، بينما تجمَّعَتْ كلُّ مظاهرِ الحياةِ في حَبْلِهِ الموصولِ بهذهِ البقعةِ من المياهِ، الَّتي توَافَدَتْ على صفحَتِها ذكرياتُهُ تَتْرَى..
جاءتْهُ تَنْكَأُ القلبَ الَّذي استوى مِنْ لَهِيبِ الشَّوْق..
في الوقتِ الَّذي اقتصَرَتْ طاقةُ عقلِهِ الواعِي على مشهدِ بقعةِ الماءِ، ومشهدِ الجِوَارِ، حيثُ ذلك العجوزُ المُجْهَدُ الَّذي يرْمِي بسِنَّارَتِهِ كلَّ حينٍ يُصارِعُ حظوظَهُ، عَلَّ النَّهْرَ يجودُ عليهِ بشيءٍ من الصَّيد؛ كانَ عقلُهُ الباطنُ قد بدأَ يجمَعُ الشَّتَاتَ، ويوافيهِ بصيدٍ حنيذٍ منْ ذكرَيَاتِهِ الحَزِينة..
و تبدأُ مراسِمُ الذّكْرَى.. يتوضَأُ القلبُ بعبيرِ الذّكرَيَات، ثُمَّ لا يلبثُ أنْ يُرَتِّلَ قصائد عِشْقٍ كانتْ فيما مَضَى خُطاهُ نحوَ فردوسِ السَّعادة، لكنَّها لم تَعُدْ غيرَ ذِكْرَيَات!
كان يظنُّ تفَلُّتَ الحُسْنِ دوماً أمامَ عينيهِ وكأنَّهُ السَّراب، حتى رَسَتْ سفينةُ القلب على مَرْفَإِها فتشبَّثَتْ بِكُلَّابِهَا وزهَدَتِ الإبْحَار!.. فهُنا مَرْسَى الأملِ ومهبطُ الحقيقة..
جُمِعَ الجمالُ فكانَ يومَ لِقَاهَا.. شمسٌ تُطِلّ، وسحاباتٌ تتَشَكَّلُ فترْسِمُ لوحاتِ العاشقين، تُلَوِّنُهَا أيادي الشَّمس، ويبوحُ الطيرُ بأسرارِ الجَوَى..
أيُّ نَفْحَةٍ مِنَ الجَنَّةِ تلك؟ عِشْقٌ، ورِيٌّ، وشمسٌ، وطيرٌ، ومحبوبان..
ذاكَ كانَ لمَّا اقتَرَب، فلمَّا تلامَسَ الكَفَّان، سَرَى في الجسدينِ تَيَّارٌ تَوَلَّدَ عن طُوفَان، فَحَرَّكَ القلبينِ، والرُّوحينِ، والشَّفَتينِ، وذرَّاتِ الهواء، وبدأتْ شجرةُ الهَوَى تَتَحَاتُّ عنها أوراقُهَا، فتسقُطُ على الإلْفَيْنِ، فتكسُوهُمَا ثوْبَاً مِنْ نَضَار!
أهكذا يصنعُ الحُبُّ؟ يضخُّ الحياةَ في الأرضِ البَوَار؟ ويفضحُ سِرَّ العاشقينَ في ليلٍ أوْ نَهَار؟!
كانا لا يقوَيَانِ على البِعَاد، فإنْ فارقَتْه لِمَامَاً، يجيئُهُ طيفُهَا عندَ سَفْحِ الأحلامِ، فيستحلِفُه: لا تُخْزِنِي في قلبِي.. مُدَّنِي بمَدَدِ الوِصَالِ ولا تَهْجُرْ، فتكونَ مُدْيَةً تُقْطَعُ بها أوْرِدَتِي ويُهْرَاقُ دَمِي..
يا أيُّها الطَّيفُ المُتَدَلِّل، أقبلْ ولا تَخَفْ، فبينَ الجِلْدِ والعظمِ قلبٌ يتَلَوَّى، فأنتَ الدَّاءُ وأنتَ الدَّوَاء.. أنا طائرُ الحُبِّ الشَّرِيد، وأنتَ المُنْتَهَى .. بالله خَبِّرْهَا : دعيني ألتحِفُ بِكِ في زمهريرِ أيَّامِي، ولْيَكُنْ قلبُكِ مِدْفَأَتِي!
لم يَدْرِ كيفَ جَرُؤتْ يوماً أنْ تُفَارِق، وقد تَعَلَّمَ على يدَيْها أبجدِيَّةَ السَّعادة.. كيف طاوعها قلبُها أنْ تنْزِعَ منهُ الرُّوحَ غيرَ عابِئَة.. لم يفهمْ أسبابَهَا ولم يُرِدْ، فليس ثمَّةَ ما يُبَرِّرُ سَلْخَ الرُّوح، وليسَ ثمَّةَ ظلمٌ أنْكَى مِنْ ظُلْمِ القُلُوب..
تلبَّسَهُ شُعُورٌ عميقٌ بالصَّدْمَةِ جَرَّدَهُ من كامِلِ طاقتِهِ الإيجابية، واقتربتْ بِهِ أحزانُهُ من بَحْرِ الإِيَاس.. الذاكرةُ مُثْقَلَةٌ بالنَّدمِ والضَّيَاع، والحياةُ تبدو مُتَوَقِّفة..
ثمَّ جاءتْ لحظةُ النَّهرِ هذهِ ربَّما لتقولَ لهُ: ليس ثمَّة مَنْ يُؤْتَمَنُ على حكايتِكَ كنَفْسِكَ الَّتي بينَ جنبيك، ومادامَ المَرْءُ طبيبَ نفسِه، فليجعلْ تَعَرِّيَهُ داخِلَهَا.. إنَّهُ نوعٌ من السَّترِ الذَّاتِي.
الحَكْيُ يخَفِّفُ مِنْ نَوْءِ الألَم.. وقد يُحَرِّرُ من أغلالِ الذّكرَيَات..
أخذتْ مَكْنُونَاتُ نفسِهِ يدفَعُ بعضُها بعضَاً، ويعلو بعضُها فوقَ بعضٍ، في حِوَارٍ فريدٍ مع النَّفْسِ، عَصِيٍّ عنِ استرَاقِ السَّمْع:
* لماذا أتَتْ وقدْ نَوَتِ الفِرَاق؟
– كلُّ شيءٍ جميلٍ يأتي، ثمَّ يذهب .. الحياةُ نفسُها تنْقَضِي .. نفسُكَ الّتي بينَ جنْبَيْكَ ستذهب، فكيفَ تَأْسَى على شيءٍ إذا ذَهَبَ ؟!
* إذنْ لماذا نتذَوَّقُ الشَّهْدَ ثمَّ نُحْرَمُه؟
– كلُّ اللَّذَائذِ في الحياةِ طبْعُهَا الانقِضَاء..
* لماذا نُعْطَاها إذْ لا تَبَقَى؟
– ربَّما لِتَعَلَمَ أبَدِيَّةَ السَّعادةِ هناك
..
* لازلتُ لا أفهمُ كيفَ تحرِمُنا الأقدارُ شيئاً ظنَنَّاهُ نَعِيمَاً مُقِيماً؟
– ربَّما يكونُ المَنْحُ في المَنْع! مَنْ يُدْرِيكَ أنَّ الأقدارَ لمْ تكنْ رَحِيمَةً بِك؟ وما يُدْرِيكَ أنَّها لو دامتْ لم تكنْ لِتُحَوِّلَ حياتَكَ إلى جَحِيم؟..
قد تصْطَلِي بتجربةٍ لتكونَ جديراً بخوضِ تجاربَ أعظم.. مَنْ يدري؟.. قد تحبو في بهوِ الهَوَى حتى يشتدَّ عُودُكَ، وتتجاوزَ فترةَ فطامِكَ، فتنطلقَ أكثرَ بأسَاً.. مَنْ يدري؟ فقط ثِقْ بأقدارِك..
هذه المكاشفة، يبدو أنَّها حَرَّرَتْ نفسَهُ مِنْ أغلالِ ذكرياتِهِ الحزينة..
تخَفَّفَ من مرَارَاتِهِ، وما تَبَقَّى منها، لَفَّهُ في صُرَّةٍ، وقذفَ بِهِ ليستقِرَّ في قاعِ النَّهْر! وكمْ مِنَ الأحزانِ طَوَاهُ النَّهْر؟!
اعتلَى صَهْوَةَ الحُلْمِ مِنْ جديد، ثُمَّ أخرجَ حُسَامَ الأملِ مِنْ غِمْدِ الأحزان، بينما عن اليمين، أثْقَلَتْ سِنَّارَةَ العجوزِ سمكةٌ عظيمةٌ وهَبَتْهَا الشَّمسُ المُغَادِرَةُ بعضاً من أشعَّتِهَا، فَبَدَتْ كلؤلؤةٍ تتراقصُ وهي تحاولُ الافتكاكَ من السِنَّارَة التي تشبَّثَ بها العجوزُ باسِمَاً يتَشَكَّر..
كانَ فِنْجَانُ القهوةِ قدْ مَلَّ الانتظار، فذَهَبَ وجْهُهُ إلى غيرِ رَجْعَة، فأزاحَهُ بشِمَالِهِ، بينما أشارَ باليمينِ إلى الجُرْسُونِ طالباً كأساً مِنْ عَصِيرِ اللَّيْمُونِ بالنِّعْنَاع!