إبداع

علي بيرو … وكوكي

أحمد حسين
Latest posts by أحمد حسين (see all)

لم يجد في الدنيا حنانًا مثلما كان مع كوكي.. كانت تطيعه في مجرد تفكيره.. ترافقه حينما ذهب.. تخاف عليه من نسمة الهواء.. تغار عليه من أنفاسه..

آه لو كان مريضًا.. مرضت لأجله.. قاسمته آلامه.. باتت ساهرة تحت قدميه.. تعشقه وَيعشقها.. تراقبه بعيونها

إنها روحه الهائمة؛ وأي روح تلك التي تحبه.. يتكلم معها لغة  بدون حروف.. لغة الأرواح.. مفرادتها تواصل بالقلب للقلب

أبجديتها مشاعر تسري كالكهربا تحسها ولا تراها..

كوكي..

كانت له الدنيا والحياة، وجد فيها الحب… فماذا فقد؟

يا الله.. ماذا وضعت في روحها من جمال وعطف؟… فأحبها.. أي سر سرى بينهما فتحابّا؟

هذه كوكي التي أحبها وصاحبته.. كلبة شقية طيبة تتبختر في وجوده.. حارسه الأمين.. تفرض حوله حماية

هذه كوكي..

  الحيوان الصامت.. أتراه صامتًا.. ؟

كلا.. إنها تتكلم.. يغني معها وتسمع.. يفرح وتضحك.. يصرخ وتواسيه..

كان يسمع نجواها بقلب رحيم.. حديثهما تدركه الأرواح

هذه كوكي..

أما عن علي بيرو، فرجل كبير.. جسم صغير.. أشيب الشعر.. تجاعيد وجهه تصرخ بأيام التعب والشقاء.. خطوط الزمن رسمت على وجنتيه تفاصيل العمر..

عيناه صغيرتان لامعتان ضاحكتان.. ابتسامته تبرز أسنانه كطفل سعيد..

لم تكن له أسرة.. لم يكن له بيت.. كانت الدنيا كلها بيته وسريره؛ حتى اختار كشكًا صغيرًا يعيش فيه.هو وكلبته.. كانت بالنسبة له العالم.. كل العالم..

عاش في الدنيا على باب الله.. حلمه كان صغيرًا أن يعيش.. فعاش وحيدًا.. عاصرناه طاعنًا في السن.. لم نعش معه شبابه

أرزاقي.. يعيش على هامش الدنيا.. لكنه مرة سعيدًا والأخرى سعيدًا أيضًا

مرة يصطاد سمكًا ويبيعه.. مرة يبني جدارًا.. مرة يدهن حائطًا مقابل حفنة جنيهات معدودة..

يبيع قصبًا أو يشوي ذرة يتكسَّب منها قروشًا قليلة تكفى بالكاد طعامه وشرابه وطعام كلبته كوكي.. هكذا كانت حياته مغلفة بالرضا..

تراه دائما سائرًا منحنيًا يضع يده خلف ظهره هائمًا في أرض الله التي يراها فسيحة ويعود لينام في كشكه الصغير قرير العين

تراه أفقد شيئًا… ؟

كلا…

ترى ماذا يحتاج الإنسان من الأرض إلا مثل تلك المساحة الصغيرة من الكشك التي يجد فيها راحته سعادته وسلامه!

أليست مساحة الكشك تكفي الرضا وتزيد؟

أليس في بيتك الكبير قطعة صغيرة أو مكان صغير يضمك أو كرسي وحيد ترتاح فيه؟.. وهذه القطعة هي نصيبك من السعادة والراحة..

بيرو وجدها في كشكه الخشبي.. كانت حياته في هذا الكشك الذي امتلأ كراكيب قديمة.. ينعم  بحريه جميلة غير مكترث لأحد أو لشيء 

وتلك نِعم يراها البعض قليلًا.. بيد أنها كل النِّعم!

ارتباط محيّر بين رجل عجوز وكلبة عفيّة ذات جسد مشدود قوي.. ارتباط لا يعرفه إلا من صاحب كلبًا..

كم كان بيرو محظوظًا عندما صاحب كلبًا يحكي لها ويحدثها وتسمعه في هدوء.. إنهما روحان تلاقيا… ولم يفترقا حتى عند النوم..

مرة وحيدة هجرها.. أوعز إليه بعض الناس أن يتخلص من كلبته فأرسلها بعيدًا في الحقول والأرياف وعاد إلى كشكه حزينًا..

فارقها وفارقته..

اه ما أقسى الفراق لو تعلمون..!!

كيف طاوعته نفسه أن يتخلص منها من روحه التي شاركته همومه وأحلامه ولقمته الهنيّة؟

كيف يواصل حياته دونها وهو الذي يعيش وحيدًا وقد جرّب مرارة الوحدة؟

أليست كوكي صديقة العمر الجميل؟

جلس أمام كشكه وقد ضرب الحزن وجه وتوقفت عن الفرحة روحه.. فشعر بزفرة أشبه بالبكاء لكنه لم يبكِ..

فبكت عينه ودموعه.. وأسدل الحزن ظلامًا حوله حتى رأى العالم حزينًا.. هي هكذا الأرواح الجميلة لا نحس بها وهي معنا ونشتاق إليها حين نفقدها..

مرت ذكرياته معها سريعًا حتى فوجئ بها تتمخطر قادمة من بعيد.. عادت إليه..

كيف عادت!… لكنها عادت.. فأبدلت المفاجأة دموعه وأسارير وجهه ابتسامة.. ياله من وفاء كلب!

حفظت جميل العشرة وذاب داخلها المعروف فخامته.. وعادت.. وعاد بيرو مبتسمًا وأيقن أن لابتسامته سرًا في وجود كوكي في حياته..

كان بيرو لا يُرى إلا وكوكي سائرة أمامه أو خلفه.. هذا الحب بينهما جعل أولاد الحي وشبابه يجعلانهما مادة للمعاكسة والشقاوة.. كان البعض يداعبه بزواجه من كوكي.. فكان يبتسم تارة.. وأخرى يطلق عليهم كوكي فتجري وراءهم وقد أفهمها أن تخيفهم فقط ولا تعض أحدًا..

فكانت تجري وتهوهو بصوت عالٍ وتدخل رعبًا فيهم وينادي عليها بيرو أن تعود فتعود.. هكذا أصبح بيرو وكوكي يوميًا مادة للتسلية شباب شارعنا يعاكسونه فيطلقها عليهم.. وكانت البعض منهم يزيد في معيار معاكسته لبيرو.. فتغلبه نفسه فيجلس باكيًا..

وتشتاط كوكي وترغب في الانتقام له.. لكنه سرعان ما يهدأ وتعود إليه ابتسامة الأطفال.. قمة غضبه السريع.. وعودة ابتسامته سريعًا هي من أغرت كثيرًا منهم على مواصلة معاكسته..

هكذا كل يوم.. يأتي المغرب وتبدأ حفلة كوكي وعلي بيرو؛ يغضب.. ويبكي ويصالحونه وتعود ابتسامته، حتى استيقظ في يوم شديد الحرارة.. بحث عن كلبته فلم يجدها.. لعلها في مكان أوهناك تبحث عن طعام..

لكن طال الغياب فأخذ يهيم كالمجنون ليس بعادة أن تغيب عن عينيه.. يدخل منزلًا ويخرج من آخر.. يجوب الشوارع ولا يجدها حتى أخيرًا وجدها على عتبة سلم أحد البيوت فرآها نائمة.. لكنها لم تكن نائمة..

اقترب منها حرَّكها فلم تتحرك.. هزها فلم تهتز!

نظر في عينيها فلم تستجب.. مد يديه على جسدها؛ شعر ببرودة.. نادي عليها كوكي.. فلم تستجب، هاجت مخاوفه..

لماذا لا تستجيب؟ ليس كعادتها ألَّا تجيب.. إنهار ما بداخله..

لقد فارقت الحياة.. ماتت كوكي.. كيف ماتت؟!

ما هذا الموت الذي يفرِّق الأحبَّة.. فتّشها؛ وجد أن أحد الأشرار وضع لها سمًا في طعام فأكلت فماتت..

ما أقسى قلوب بعض البشر!.. كالحجارة، بل أشد قسوة!

جلس بجانبها يحضنها ويحدّثها ولكنها لا تُجيب.. نامي يا حبيبتي، ليصعد صوتك إلى السما،

 نامي يا حبيبتي نَوم العاشقين.. نامي وارتاحي حبيبتي عليكِ السلام..

قضى علي بيرو حياته حزينه.. فأراد أن يتغلب على أحزانه بسلوى تعيد له حياته؛ فترك الكشك وهام في أرض الله الواسعة فتزوج وهو في السبعين وأنجب طفلة جميلة، لكن أسرته الصغيرة لم تنسيه يومًا ما أعطته له كوكي..

فقرر أن يغادر.. فغادر؛ أملًا أن يلحق بمن قاسمته الفرحة واللقمة، وقد يكون معها الآن!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى