إبداع

عود بخور

يوم الجمعة في حي الحسين يختلف عن باقي أيام الأسبوع خاصة في قلب الفتى سعد

حنان العشماوي
Latest posts by حنان العشماوي (see all)

يوم جمعة ربيعي أشرق على حي الحسين الأصيل تسلل ضوء الشمس بلطف عاكسًا ألوان زجاج المقهى على الأرض معلنًا بداية اليوم.

قليل من التململ والتمطي ثم قام سعد الصبي ابن الخمسة عشر عامًا بالاستيقاظ لترتيب المقهى من آثار رواد آخر الليل، فحي الحسين لا ينفض منه زائروه سواء أكانوا أولاد بلد، أم أجانب وبما أنه يوم الجمعة فاليوم موعد النظافة الأسبوعية ولن يفتح المقهى أبوابه إلا بعد الصلاة.

أسرع سعد بعزم فتي في الخامسة عشر من العمر لعربة الفول وصاح بأعلى صوته: شقتين فول وتلاته طعمية وزود الطحينة يا عّم مغاوري.

انتبه إليه مغاوري وناوله ما طلب قبل البقية الملتفة حول العربة، فسعد محبته في قلوب أهل حتته كبيرة فقد جاءهم رضيعًا على ذراع أمه التي قدمت من مكان بعيد بعد أن توفي أبوه، وحاولت أسرة الأب تزويج أمه من العم ليضع يده علي قيراط أرض كانت ملك المتوفى.

فرت الأم بالطفل تحت جنح الليل هاربة حتى قادتها قدماها إلى جوار مقام سيدنا الحسين. استقرت في غرفة رطبة في بدروم أجّرها لها الحاج سيد مرسي، كان يستخدمها كمخزن يضع فيه لوازم مقهاه الكائن تحت العقار المملوك له.

 عاشت الست إنصاف -ذاك اسمها- تربى سعد وسط أهل الحي وأكثرهم ناس طيبين أحبوها وطفلها وكانت تخرج صباحًا للعمل في البيوت وتترك سعد مع الحاجة درية زوجة الحاج سيد؛ فتتولاه الأخيرة بالرعاية والطعام مع بناتها حيث أن خلفتها كانت كلها بنات إلى أن تعود إنصاف من عملها.

يوم حزين في الحسين

 إلى أن كان يوم حزين خرجت أم سعد ولم تعد، وسرى الخبر ووصل الحارة أنها راحت ضحية حادث سير أثناء نزولها من المواصلات وتدافع الركاب مما أدى لوفاتها واشترك أهل الشارع في تشييع جثمانها ودُفنت في مقابر أسرة الحاج سيد وأعلن هو مسؤليته عن سعد؛ كي يصبح رجلًا ويزوجه، وهكذا تربى سعد طفلًا في بيت الحاج حتى بلغ الحادية عشر.

عندها قرر الحاج سيد أنه آن أوان الفصل بين الولد والبنات، وأعد الغرفة التي سكنها سعد مع المرحومة أمه وجهزها لتشمل كل ما يحتاجه من لوازم.

حاول الحاج إلحاق سعد بالمدرسة حتى يأخذ قدرًا من التعليم يعينه على الدنيا ومتطلباتها حين يشتد ساعده. لكن لم تكن الدراسة تستهوي الفتى وقنع بمرافقة الحاج سيد للمقهى والمساعدة في الأعمال المطلوبة على قدر ما يتحمل ويعي.

مرت عشر سنوات وأصبح سعد أحد أفراد العائلة، نشأ الفتى وحُب آل البيت يكبر في قلبه مع حُب الأسرة التي تولت رعايته وعاملته كفرد أصيل من أفرادها.

يوم الجمعة في حي الحسين يختلف عن باقي أيام الأسبوع خاصة في قلب الفتى سعد فهو اليوم الذي يتناول فيه الغداء في بيت الحاج مع أسرته، معنى ذلك رؤية نجاة الجميلة.

نجاة 

لطالما كانت أرق عليه من أخواتها، كم من المرات أعطته من الأطايب التي تعدها أمها أن صوت ضحكاتها يسكن البهجة في فؤاده أخذ يمني نفسه وهو يزدرد لقيمات الفول والطعمية بسرعة كي يصعد للقهوة ويقوم بتهويتها ورشها وغسل القواعد الزجاجية للشيشة، ووضع ماء الزهر للحاج في القلة وتجهيز الصينية لها بوضع الماء البارد وعيدان النعناع الأخضر وقطع الليمون إرضاء للحاج الذي يرفض استبدال طقوس شرب الماء من القلة بأي زجاجات من أي نوع.

سارع إلى فتح الشبابيك الزجاجية الملونة على شكل الفسيفساء ومسح بلاط المكان، وبعدها أعاد وضع الطاولات والكراسي إلى مكانها ثم أدار قنوات الراديو على إذاعة القرآن الكريم. الآن حان موعد آخر الطقوس وأهمها؛ وهي إشعال عود البخور العملاق الذي يصل شذاه كما يقول الحاج إلى بوابة النصر.

وليمة نهاية الأسبوع

 نزل إلى غرفته للاستحمام وتبديل ملابس العمل وارتداء الجلابية والطاقية التي قامت الحاجة درية أنعم الله عليها بالصحة والعافية بغسيلهم وتزهيرهم حتى لكأن من يراه يظن أنه ابن أحد الوجهاء استعدادًا للذهاب للصلاة مع الحاج في الحسين.

 مر الوقت وانتهت الصلاة وانصرف كلٌ إلى ما يبغي وعاد الحاج ومعه سعد إلى القهوة وبدأ الوافدون بالظهور، الأستاذ سامي موظف بالمعاش وحيد بعد وفاة زوجته وسفر أولاده للخارج، يجلس في مكانه المعتاد ومعه الجرائد القومية، الأخبار والأهرام والجمهورية وهو ضد جرائد المعارضة، هي بالنسبة له صحافة صفراء، وقبل أن يرفع يده مناديًا؛ سارع سعد برفع صوته للقهوجي: الينسون الدافئ للأستاذ سامي.

 ابتسم سامي ابتسامة أبوية كبيرة قائلًا:

– عارف يا واد يا سعد أنت فيك نباهة مشوفتهاش في حد من ولادى خسارتك في قلة العلام يا ولد.

 فرد سعد:

-يا عّم سامي ماأنت شايف أغلب اللي عالقهوة شهادات ومافيش أشغال.

 سامي:

-برضه يا بني العلام حلو والشهادة سلاح.

 استدار سعد ومعه الصينية الفارغة وعلى وجهه ابتسامة يشوبها بعض الألم وما هي إلا نصف الساعة أو أقل وامتلأت القهوة ولا موضع لقدم.

 صاح المعلم سيد على صبي القهوة حسونة: إشهل شوية وإلا مش هتلاحق على الزباين وتقلب خناقات على المشاريب المتأخرة، وبعد صلاة العصر استعد الحاج سيد للصعود للغذاء مصطحبًا معه سعد الذي كان يعد الدقائق منذ الجمعة الماضية للزيارة الميمونة وليمة غداء ولقاء الأحبة.

بنات الحاج 

صفق الحاج الباب قائلًا:

-يا ساتر

جرت البنات إلى الغرف للاستتار ولبس طرحة الرأس فللحاج قواعد صارمة فيما يتعلق بحرمة البيت وسعد يظل غريبًا.
للحاج ثلاثة فتيات صغراهن نجاة والكبري سميرة أما الوسطى فهي اعتدال، نجاة أصغر من سعد بأربع سنوات واعتدال أكبر منها بسنتين أما سميرة فهي الكبرى عروس أبيها.

كان قرار الحاج أن على البنت أن تتعلم حتى تحصل على التوجيهية ثم يأتي دور العريس فلا بد من بعض العلام حتى يكن أمهات متعلمات، ولكن ليس إلى المرحلة التي تتعزز فيها البنت على زوجها بعلامها كان الخطاب يتوافدون لطلب القرب من الحاج فسمعته الكريمة ذاعت في المنطقة كما أنه رجل ميسور الحال مهاب الطلعة يحترمه ويحبه كل من يعرفه.

الحلم

بدأ الإعداد للغداء وفرشت السفرة بالمفرش الأبيض المُحلى بزهرات قطنية مختلفة الألوان بارزة على حوافه الدائرية، ورصُت الأطباق الصيني روميو وجوليت ووضع إبريق الماء المزهّر والأكواب على البوفيه في الخلف، وبدأت الروائح التي يسيل لها اللعاب من تقلية الملوخية مصاحبة بشهقة الطشة للحاجة درية تلاها خروج دكر بط محمر بالسمن البلدي، وأطباق السلطات المتنوعة من سلطة بلدي وطحينة وبذنجان مخلل بالثوم.

وأخيرًا خرجت الست درية من المطبخ وخلفها البنات حاملات أطباق الرز وسلطانية الملوخية، واجتمعت الأسرة على المائدة ومعهم سعد وهو يمنّي نفسه بأطايب الطعام وجمال الصحبة للجميلة نجاة حتى ولو لم يلمح منها سوى امتداد يديها تغترف من الطعام.

 انتهى الحلم وحان موعد العودة إلى أرض الواقع؛ إلى البدروم البارد بخلوه من الأحبة، ومرت الأيام تسارع بعضها جميلة، تزوجت سميرة من موظف في وزارة المالية في الدرجة السابعة، وأقام لها الحاج الأفراح واليالى الملاح، وانتقلت إلى بيت العريس، تلتها اعتدال وقد تأخرت قليلًا؛ فهي أقل في مستوى الجمال من أختيها بالإضافة لبعض البلادة في الطبع، فلم تكمل سوى الابتدائية وبصعوبة، لكن كما يقولون لكل فولة كيال، وكان كيال اعتدال صاحب دكان بقالة ابن ناس طيبين معاه الإعدادية ولكن وضعه المادى لا بأس به، وتم الزفاف ووزع العريس على أهل الشارع أكياس الملبّس والشربات، ولعلنا نتساءل.. أين سعد في غمرة الأحداث؟

شمس تغيب عن حي الحسين

سعد أصبح ذراع الحاج اليمين، الابن الروحي ولا يزال ينتظر دعوة الحاج إلى غداء يوم الجمعة ليرى البرعم الذي تحول إلى زهرة جميلة ينتظر أن تنير حياته، لقد رسم حياته بها، ما هي إلا فترة وجيزة حتى يصل ما يدخره إلى مبلغ محترم يتقدم به إلى الحاج طالبًا القرب من أولى بها منه.

لقد أشرقت حياته على شمسها، كان يحلم بالقرب أثناء يقظته قبل منامه إلى أن كان يومًا تأخر فيه الحاج للنزول إلى القهوة بعد قيلولة العصر، وكان سعد كالعادة محل الحاج إلى أن ينزل وفجأة انطلقت زغرودة قوية تبعتها العديد والعديد من الزغاريد؛ خرج سعد مسرعًا إلى الشارع ثم سمع الحاج سيد ينادي:

-اطلع يا سعد.

انطلق يصعد الدرج كل خمس درجات مرة واحدة حتى وصل إلى الباب المفتوح، دخل وضربات قلبه تخنقه فلا يستطيع النطق ووجد الحاج سيد بصحبته الأستاذ سامي وبجواره شاب ثلاثيني الملامح، وعلى الوجوه أمارات سعادة ووجد موظف المالية زوج سميرة وزوج اعتدال في المكان، والحاج يأخذه في أحضانه:

-خلاص يا سعد أنا اطمأنيت على أخواتك البنات مش فاضل عندي غيرك.. الباشمهندس محمود ابن اخونا الأستاذ سامي رجع من الخليج وخطب اختك نجاة.

 لوهلة لم يدرك ما يجرى حوله، ولكن دخول نجاة بالصينية الفضة وعليها كاسات الشربات وابتسامتها تنير وجهها لم يملك إلا أن يرتمي في حضن الحاج ودموعه تنهمر على جلباب الحاج، وهو يقول:

-ألف مبروك أبويا الحاج، تفرح بعوضهم.

والحاج يربت عليه قائلًا:

-متخافش يا واد إنت ابني، إنت بس نقّي ست العرايس وأنا أجوزهالك النهاردة قبل بكرة.

تم الزفاف ورحلت نجاة مع عريسها ومرت الأيام والشهور والسنين وتوفى الحاج تاركًا القهوة لسعد الذي ظل في خدمة الست درية إلى أن وافتها المنية ودفنت في مقبرة الحاج سيد بجوار والدة سعد.

 أما سعد فلم يتزوج بعد أن غابت شمسه في الخليج، تراه أحيانًا يوم الجمعة يشرف على القهوة قبل الصلاة ويدور مشعلًا فيها عيدان البخور التي يصل شذاها لباب النصر.

تمت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى