فلما بلغ الأربعين..صفحات من حياة السيد هادي
- تاريخ المصريين في ملعقة عسل! - 11 سبتمبر، 2023
- «لحن الفراق»… قلوب ملائكية في مواجهة الذئاب - 6 سبتمبر، 2023
- لون جديد من السرد يعتمد الرعب «الميتافيزيقي» - 9 مارس، 2020
فلما بلغ الكاتب الصحفي أنور عبد اللطيف الأربعين عامًا في بلاط صاحبة الجلالة جمع ما تيسر له من أوراقه الكثيرة المتناثرة في دهاليزها ، ورتب حكاياته الحميمة إلى قلبه وجعل ينمقها ويقدم ويؤخر ثم دفعها إلى ” دار النخبة للطبع والنشر” ليولد بين أيدينا كتاب، فيه مافيه من المتعة الماتعة بأسلوب شيق يداعب خلجات النفس بليونة أحيانًا ومراوغة أحيان أخرى، ففي الوقت الذي يعنون لواحدة من حكاياته كاشفًا أوراقة ” إيزيس.. سر الأقصر”، يُدخلنا عالم الألغاز بعنوان ” شيطان يتوب” أو” دبوان..الصابر البسيط” لتكتشف فيما بعد إن دبوان هذا اسم ذا دلالة لحمار غير عادي .
فما تكاد تنتهى من فصل حتى تجد نفسك أسيرًا لفصل آخرديدنه في ذلك طزاجة الألفاظ والإنتقال من جملة لأخرى .. ينحت للضرورات العصرية مايناسبها من تشبيهات، انظر إليه يقول: ” وأشعلت مصباح اللد فملأ الغرفة بلون أبيض فاقع كمساحيق التحلية الصناعية “.
كانت ضربة البداية قبل أن يتعود كاتبنا على اسمه الرسمى ” أنور”، الذى ماخطر على قلب والده أن يختاره له، وإنما اختارته من لايعرفها من بنات حواء ــ وتلك حكاية طريفة صدَّر بها كاتبنا صفحات كتابه ــ وقد كانت المحررات الرسمية التى بدأ نشاطها وهبت من رقادها في اليوم الأول للصف الدراسي الأول ورفعت راية العصيان لتتضامن مع بنت حواء التى اختارت الاسم مذ ست سنوات ورفضت الاسم الذي اختاره الحاج عبد اللطيف لولده ، لتقول له : من الآن فصاعدا اسمك “أنور”، يا ” هادي” سابقًا .
وقبل أن نلج إلى مايمكن تسميته ــ ظلمًا ــ ” حكايات أو مذكرات ” الكاتب الصحفي أنور عبداللطيف ولكنه في جوهره ” رواية حياة ” وكان يمكن للكاتب بتعديل بسيط أن يقدم لنا نصًا روائيًا غنيًا بالدلالات والأحداث والشخوص مايؤهله لأن يكون ” رواية السيرة الذاتية ” .. ربما حرص الكاتب على ذكراسماء ابطاله وشخصياته الحقيقية وأماكن الأحداث دون تغيير لحميمية العلاقة بينه وبينهم، أوخشية فقدان حرارة التواصل..
ومانراه للإحتفاظ بكل هذا المنجز المتميز على مدى الأربعين عامًا هو الشكل الأدبي ” رواية حياة “، يعزز ذلك ضربة البداية تلك اللقطة العبقرية التى تؤسس لكل مابعدها بعنوان ” الوجه الذي يتبعني ” .. وكأنه يقول : إن رواية حياتي تنقسم إلى ثلاثة فصول ، ماقبل الأربعين عامًا في بلاط صاحبة الجلالة حيث ذكريات الطفولة والدراسة ، وماحدث في الأربعين عامًا حيث حصاد المحصول لتلك الزرعة العفية، وأخيرًا استقبال مابعد الأربعين عامًا التى لخصها في عدة كلمات:” فتحت للوجه المدورصفحة جديدة في كراستى.. وابتسمت ..” .
بعد حكاية المقدمة يرفع الستارعن أحداث الرواية فيكشف لنا الكاتب غطاء السر عن الاسم الرسمى ” أنور” والاسم الحنون ” هادى” الذي كاد ينسيه ” أنور” هذا، حتى استبدت المحررات الرسمية بالمشهد منذ أول يوم دراسي فتوارى الطيب الحنون العفريت النقى ” هادى” وسكن في حنايا الذاكرة آملًا في تصدر المشهد ذات يوم ، كما يكشف وجه آخر للقفزة الزمنية الهائلة لإبن ” الطفل القديم هادى” واسمه أحمد الذى يدرس في ألمانيا ويلتمس أخباره والإطمئنان عليه من الفيسبوك والماسنجر .. ومفاجآت أخرى .
ويستدرجنا الكاتب بنعومه سحرية لذكريات الطفولة وحكاية ” شيطان يتوب” واستدعاء نصوص وصور متشابهة من شمال البلاد حيث قرية ” سنفا” من أعمال الدقهلية حيث مدق العفاريت وشبيهه في الأقصر مع اختلاف التفاصيل .. ولأن الكاتب الصحفي هو أيضًا كاتب قصة قصيرة ماجعله يطلق على حكايات كتابة وصف” حكايات قصصية” أى كتبها بأسلوب قصصى ، فقد برع في السيطرة على نفس القارىء في حكايات ” الجيش والشهداء ورائحة البارود وفوارغ الطلقات وماجرى من إنسانيات وعواطف جياشة ومتباينة لأهليهم ” وكأنها حدثت منذ ساعات قلائل، تشم فيها رائحة الأحاسيس وفوران العواطف .
وتنقلنا عدسة الكاتب اللاقطة المتميزة إلى حياة الصحفيين والصحافة ، وكيف عمل بمؤسسة الأهرام، وتعريفه بنفسه للروائي العظيم نجيب محفوظ تليفونيًا: ” أنا فلان زميلك في الأهرام ” لتكتشف أنك حيال كاتب يجبرك على الإبتسام والسخرية.. وكذا ذكرياته وهو يراقب ” توفيق الحكيم” في مكتبه بالأهرام يكلم نفسه ويظن الكاتب أنه يكلمه ! ، وكذا ذكريات مشاهداته الغريبة لأهل الفكر أمثال بنت الشاطىء ويوسف أدريس وجلال أمين وغيرهم الكثير، ثم رحلته لزيارة ولده أحمد الذي يدرس في ألمانيا ويستعرض لنا “دستور حياة مدينة ” الكفار” التى يسكنها أحمد” وماأجملها من مدينة وماأجملهم من ” كفار” .. ونشم رائحة الحزن في الورود الخمس ونبل الأدباتي عبدالله الشيخ ، وعصير الشوق للشقيقين الراحلين .
على أية حال لايمكن لنا استعراض أحداث 320 صفحة تحتاج كل صفحة فيها لإستعراض خاص ،تجتمع فيها عدة مشوقات يتضافر فيها السرد الممتع يزينه الأسلوب الحنون وكأن الكاتب يجلس معك يحدثك ، ويطبطب عليك بطرافة الحكايات وغرابتها، وعظمة الشخصيات التى لاتتوفر بسهولة لمن يتعمدها ولكنها رزق صاحبها ورزق من يقرأها.