
- «مثلث الموت» أحداث حقيقية في أماكن خيالية - 11 سبتمبر، 2020
- لا للنقد الهادم.. نعم للنقد الهادف! - 9 أغسطس، 2020
- قصة غرائبية أبطالها بلا رؤوس! - 14 يوليو، 2020
قصة (عالم بلا رؤوس) من المجموعة القصصية «أشباح الكمبوند» الصادرة عن «دار النخبة» للقاص أسامة إبراهيم، نبحث عن ماهية مصطلح المكان ودلالاته في القصة وكيف تجلى داخل المتن القصصي؟
«امتدت المدينة أمام عينيه امتدادًا هلاميًا… لا أحياء ولا طرقات ولا أشجار ولا طيور… يسير في حواريها وأزقتها وينظر حوله فيرى أهلها بلا رؤوس، فيشعر بالرعب وتحيط به تهيؤات مبهمة. وجد السماء فوقه تلفها سحب كثيفة كأنها دخان، فتساءل: لماذا تعشعش السحب هكذا في جو السماء كأنها أشباح بلا رؤوس توشك أن تتساقط على الأرض؟».
منذ اللحظة الاولى للقصة نجد فاعلية كبيرة للمكان ولا بد لنا في المضي في بحثنا عن ماهية هذا المكان في القصة وقبل كل شيء هل هو مكان واحد؟ وهل المكان متشابه؟ ووجدنا بأن المكان متعدد ومختلف في هذه القصة كما سوف نبين هذا التنوع والاختلاف.
مصطلح المكان عبر التاريخ
شغل مصطلح المكان اهتمام الكثير من النقاد والمفكرين والفلاسفة عبر التاريخ، وتعددت تسمياته حسب وجهة نظر كل ناقد من فضاء وحيز. فقد أورد الجرجاني تعريفين هما: المكان المبهم والمكان المعين والمكان المبهم عنده “عبارة عن مكان له اسم نسميه به بسب أمر غير داخل في مسماه كالخلق… والمكان المعين هو عبارة عن مكان له اسم سمي به بسبب أمر داخل في مسماه كالدار، فإن تسميته بسب الحائط والسقف وغيرهما وكلها داخلة في مسماه.
وقد وجد الجرجاني أن المتكلمين عرفوا المكان بأنه «الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم وتنفذ فيه أبعاده». لا تعطي دلالة المكان والزمن معنى، ولكن الأمر يتغير عندما يغذيها السرد، فيجعل القارئ يدرك ماذا يقرأ وتتضح دلالة المكان والزمان فتتشعب إلى فهم الجغرافيا المحدودة لهذا المكان والشخصيات التي هي رموز أو إشارات يفهمها ويتجاوب معها القارئ وفق معالمها ومعطياتها ودلالتها وهذا بفضل تعدد المعاني والصور اللطيفة والقيمة الفنية التي يمتلكها السارد لوصف المكان.
في البناء القصصي المكان فضاء مفتوح يدرك من خلاله القارئ الأهمية للدخول في عالم القصة وهنا يرفض أو يقبل ويتأثر ويطمئن أو يشمئز، فلا قصة أو رواية بلا مكان فالمكان هو التأشيرة التي تفتح لك الطريق لتتبع مسار السرد القصصي.
نجد القاص أسامة إبراهيم يدخل علينا بقصته من المدينة وبسرد وجملة قصصية جميلة.. امتدت المدينة أمام عينيه امتدادًا هلاميًا. ولا بد بنا أن نتبين الامتداد والروية الأفقية المفتوحة وقبل كل شيء لزم علينا أن نبين نوعية المكان، لأن المكان مختلف ومتنوع كما حدده أهل الاختصاص بين الفضاء المفتوح وبين المكان ذات الأبعاد الثلاثة مثل البيت الذي تحيطه الجدران أيضًا الفضاء اللآمتناهي، ويقصد به الصحراء. والمكان هو الذي يضفي على التخيل مظهر الحقيقة.
تفاعل المكان مع مكونات القصة
فالمكان الروائي لا يؤسس بمفرده إلا إذا تفاعل إيجابيًا مع المكونات القصة من شخصيات وتقنيات وأساليب فنية من شأنها أن تتظافر جميعها مع المكان الخاص في الرواية، فتغدو (كائنًا حيًا).
ننتقل إلى نص آخر ومكان جديد وهو الفضاء المفتوح، هو السماء، وكما في النص: «وجد السماء فوقه تلفها سحب كثيفة كأنها دخان، فتساءل: لماذا تعشعش السحب هكذا في جو السماء كأنها أشباح بلا رؤوس توشك أن تتساقط على الأرض؟»
فكل مكان حسب لوتمان، يفرض طقوسه وخصوصيته على الفرد الذي يوجد فيه فهو ملزم وخاضع لتلك القواعد التي تحكمه وتفرض كينونتها على الإنسان. فتختلف دلالة المكان من دلالة جغرافية إلى دلالة فلسفية.
عليه نستند إلى هذا الرأي فقد استند القاص أسامة إيراهيم، إلى الفلسفة والفضاء والسماء فلسفة خاصة قدمها عبر محاكاة الغيوم في السماء. ناهيك عن الشاعرية في السرد والمقطع الذي وصف فيه الغيوم بقطع من الدخان ليحول المشهد إلى سؤال: «لماذا تعشعش السحب هكذا في جو السماء كأنها اشباح؟» .. وهنا يظهر الوعي الإنساني في تحويل الأمكنة سواء ربطه بالأشياء وبالخيال أو بالإحساس.
وصف غرائبي للمكان
في النص الذي يسير به السرد الجميل ليعبر الشارع وبوصف غرائبي الشارع بلا رصيف.. كما في النص: «هرول عبر الشوارع التي لا أرصفه لها، وهو يتحاشى أن ينظر إلى البشر الذين لا رؤوس لهم، حتى وصل إلى البيت» مشهد سينمائي مرئي بصور يحركها القاص عبر السرد، وكلمة (يهرول) تعني راكضًا يعبر الشوارع لكنه جعلها بلا أرصفة؛ لنشاهد معًا الترابط بين الشخصية والمكان وقد بيَّن غرائبية المكان منذ البداية، إلا أنه مع الركض في الشوارع التي لا أرصفة لها ليقطع المسافة عبر تلاحم جميل بين الشخوص والمكان والزمن ليصل إلى بيته.
المكان الآخر وهو البيت، وهنا البيت مكان محدد بأبعاد وهي الجدران، تناول القاص أحداث معينة داخل الصالة وغرفته الخاصة وهذا الحدث يدور داخل بُعد معين وضمن المكان المحدد. المكان في كل أبعاده الواقعية والمتخيلة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنص وبكل ما يحويه من شخصيات وأزمنة وحوادث، وبما أن المكان عنصر يتميز بخصوصيته وبوظائفه المتعددة التي تتحكم في تكوين إطار الحدث كما تساعد القارئ على التخيل وتصور الأمكنة التي يعرضها. إن (المكان) ليس عنصرًا زائدًا في القصة، فهو يتخذ أشكالًا ويتضمن معاني عديدة، بل أنه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله.
نقطة انطلاق الكاتب
إذن يمكننا القول بأن المكان هو نقطة انطلاق الكاتب وهو المكون الأساسي لبنية النص ككل، وذا يصبح المكان عنصرًا فاعلًا في القصة وفي تطورها وبنائها، وفي طبيعة الشخصيات التي تتفاعل معه وفي علاقات بعضها ببعضها الآخر. لذلك استند القاص في القصة التي هي حلم على الشخوص التي هي بلا رؤوس على الأمكنة انطلاقًا من المدينة ثم الحواري والأزقة، ثم إلى الشوارع التي وصفها بلا أرصفة وصولًا إلى البيت.
المكان من ركائز القصة وجماليتها في «النظرية الأدبية الحديثة» فأصبح المكان بمثابة العمود الفقري التي تبنى على أساسه الأجناس الأدبية من قصة وشعر ورواية، ومن دون المكان يفتقد العمل الأدبي تلك الخصوصية والأصالة فيختل دونه العمل الأدبي، فيعني هذا الأخير جنس القصة الذي نحن بصدد ربط المكان التي لا تخلو من الخيال لأن (المكان) الذي يأسر الخيال لا يمكن أن يبقى مكانًا لا مباليًا خاضعًا لأبعاد هندسية وحسب، بل هو مكان عاش فيه الناس ليس بطريقة موضوعية، وإنما ما للخيال من تحيزات.
الدور الهام الذي يلعبه عنصر الخيال الذي يفتح فكر المبدع وحتى القارئ لتخيل الأمكنة والإيهام بها كأنها حقيقية، فالخيال هو الذي ينقلنا إلى تلك الأمكنة المتنوعة العوالم بواسطة اللغة التي يعتمدها الكاتب المبدع في وصف أحيازه أو فضاءاته، فهو أوسع من أن يكون مكانًا هندسيًا تحكمه لغة القياس والأحجام.