إبداع

قطعة جبن وكسرة خبز

لاحت البشرى من بعيد حين توافدت الأصناف والأطباق واحداً تلو الآخر

د.دينا ابو الوفا
Latest posts by د.دينا ابو الوفا (see all)

كانت تتضور جوعاً… كادت تشعر بجوفها يعتصر ألماً… لقد صامت فترة ليست بالقصيرة… حتى أنها لم تعد تذكر متى كان آخر عهدها بوجبة شهية، وجبة ترم العظم كما يقولون…

أشير لها أن تتخذ مجلسها على رأس طاولة الطعام… جلست على المقعد… ظلت تفرك كفيها بحماس استعداداً لتناول أشهى وليمة… فقد استحقتها عّن جدارة بعد صبر دام طويلاً … فمن يصبر ينل، أليس كذلك!

ولاحت البشرى من بعيد حين توافدت الأصناف والأطباق واحداً تلو الآخر… المحمر والمشمر والمحاشي والطواجن واللحوم الطيبة والطيور… كل ما لذ وطاب استقر أمام عينيها… صار على بعد ذراع منها… مدت يدها لتلتقط الصنف الأول فوجدت من يعنفها: «لا لا ليس لكِ»

فهمست لنفسها: «لا بأس، الأصناف أمامي كثيرة»

الأصناف الكثيرة الممنوعة

مدت يدها لتلتقط نصيبها من الطبق الثاني، فوجدت من يضربها على كفها الممتد: «أجننتي، أتطمعين في هذا!»

فابتسمت على استحياء واعتذرت، ربما تطلعت لأمر قد عظُم عليها..

وراحت تمد يدها للطبق الثالث فنهرها صوت من بعيد: «اتركيه على الفور، لقد أُعِد لغيرك»

لا بأس ربما كان رزقاً مقسوماً لغيرها، ستنتظر رزقها لينادي عليها… ألا يقولون أن الرزق ينادي على صاحبه!

ثم أعادت الكرَّة في الصنف الرابع والخامس إلى آخر الأصناف الشهية الدسمة أمامها، فقط لتتكرر نفس النتيجة المخزية.. وانتهى الأمر بأنها لم تتذوق منهم شيئاً..

جلست على المنضدة مطأطأة الرأس، بأعين أطلت منها نظرة حزينة منكسرة والجوع كذئب مفترس ينهش فيها… إلى أن وضع أمامها في نهاية المطاف طبق يحتوي على قطعة جبن صغيرة وكسرة خبز وقيل لها: «هذا طعامك»

أهذا حقاً طعامي!

أهذا كل ما أحصل عليه.. أهذا نهاية صبري؟! 

أجابها الصوت من بعيد بقسوة غير مبررة: «نعم هذا طعامك.. ولكِ أن تتناوليه أو تتركيه كيفما شئتِ… الأمر متروك لكِ..»

المفاجآت الصادمة

لم تجد من المفردات والكلمات ما يعبر عن شعورها في تلك اللحظة… فقد تأتي بعض المفاجآت صادمة أحياناً… لتكن أفجع بكثير مما توقعنا… لتفوق قدرتنا على الرد… وتأتي الخيارات مبهمة تاركة إيانا في حيرة من أمرنا… فتفضيل المُر على الأمرّ ليس بالأمر الهين… خاصة وأنه يصعب تحديد أيهما المُر وأيهما الأمر! وعليها أن تختار الآن بين الموت جوعاً وبين تناول قطعة الجبن وكسرة الخبز.

وعند هذا المشهد الأخير أفاقت من غفوتها وانتهى الحلم الذي راودها خلال ساعات نومها القليلة، تسمرت في فراشها وحلَّ عليها الصمت… فما رأته في حلمها لم يكن سوى انعكاساً لحقيقة عاشتها على مدار سنوات عديدة ماضية، ولا تزال تعيشها… فقد كانت إمرأة طموحة تجد وتجتهد… تنحت في الصخر بأظافرها .. تلهث وراء أحلامها دون كلل أو ملل… حلم تلو الآخر كان يلوح في الأفق من بعيد، تترقبه يدنو منها شيئًا فشيئاً… حتى يصير نصب عينيها… تمد يدها بنشوة وحماسة لتحصد ما زرعت… لتروي ظمأ سنوات… لتعوض سنوات عجاف…

وقبل أن تتمكن منه في قبضتها، يأتي من يختطفه منها خلسة… يحدث ما يحول بينها وبين إدراكه!

كانت تحاول باستمرار أن تبقى شعلة الحماس متوهجة بداخلها، كانت على يقين أنها لو انطفأت لن يعيد ليشعلها شيء على ظهر الكون، فكانت تواسي نفسها بعبارات لم تكف عن ترديدها سراً وعلانية… في نومها وصحوها… في صلاتها ودعائها… في قمة يأسها وانكسارها… «الخير في ما اختاره الله»، «فرج الله قريب»، «رب الخير لا يأتي إلا بالخير»، «وعسى أن تكرهوا شيئاً وفيه خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وفيه شر لكم»، ولكن إلى متى!

بين الأمل واليأس

إلى متى تنتظر الحلم الذي لا يتحقق والأمل الذي لا يكتمل؟، إلى متى تعيد على مسامعها تلك العبارات… إلى متى؟!

تنتابها أحياناً لحظات ضعف، لحظات يوسوس لها إبليس ويهمس لها أن تنسى أحلامها، أن تلقي بكل طموحاتها عرض الحائط، أن تفقد الأمل، أن تستسلم لليأس وتفسح له طريقاً كي يتسلل داخلها…

أن تسلِّم بأن الخير الذي ترجوه على الأرجح لم يُكتب لها… وأن ما كُتب لها فوق الجبين، أبعد ما يكون عما سطرته هي في مخيلتها، كانت تفقد السيطرة أحياناً أخرى، وتنظر إلى السماء بأعين تفيض بالغضب، تصرخ بعلو صوتها «هل تختبرني؟! هل تمتحن صبري وجلدي… هل تختبر إيماني ويقيني؟!

إن كانت تلك هي المسألة فقد اكتفيت اختبارات … لقد فاض بي الكيل … لقد أخفقت … فلنكتف بهذا القدر …. فلنكتف، وليلة أمس كانت ليلة أخرى انتابتها فيها حالة الجنون تلك… كانت تنتظر أن يمن الله عليها بوليمة تشبعها، إلا أنه لم يمنحها سوى «قطعة جبن وكسرة خبز».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى