لوحات تشكيلية في قصص «جذور عنيدة»
«الشمري» ينطلق من زوايا سردية ليتناول وقائع ونهايات غير متوقعة

- معانٍ وحقائق متعددة في «غيمة آمال» - 22 نوفمبر، 2021
- لوحات تشكيلية في قصص «جذور عنيدة» - 10 مايو، 2021
ينطلق القاص «خالد الشمري» من زوايا سردية يتناول فيها الوقائع غير المنطقية معتمدًا على المفارقات الحياتية والنهايات غير المتوقعة.
وهذا ما يميز قصصه ويجعلها مثل اللوحات التشكيلية تعمل على توسيع الأفق البصري وتفتح باب البصيرة والصور التعبيرية يجسد فيها الزمان والمكان إلى جانب إحساسه المرهف بالكلمات.
ارتباط الحدث بالقصة
جميع القصص تقدم بضمير الغائب (القاص) أحيانًا يتدخل، وفي أكثر القصص يرتبط الحدث بموضوع القصة وتأتي القصة بما يشاهده البطل نفسه شخصيًا فقط! كما في قصة (حديث العيون) التي تبدأ القصة في تقديم المكان المتحرك (طريق السفر طويل.. جلوسه قرب النافذة يشعره بالسعادة.. زجاج النافذة يعكس ذكرياته الجميلة.. لحظات سعيدة، تتغير الصور مع الطبيعة التي تمر بها الحافلة” تمهيد جميل ووصف للطبيعة التي سيكون لها أثر على الموقف!
«بين تأمله لزجاج النافذة، وإذ بها تعكس صورة فتاة، وهي تنظر إليه، كانت تجلس في مقعد خلفه.. يراقب حركاتها… تلك النظرات شغلته كثيرًا»
بما أن العنوان هو (حديث العيون) ومع ما تقدم من القصة فإن المتلقي سوف يسترجع ما تفعله العيون والنظرات في مجال (ترجمة المشاعر الرومانسية، والنظرات تفضح الحب، والعيون تعلن الانجذاب، وتتصف عيون العشاق بالاتساع، فالحب تفضحه العيون)
«قطعت الحافلة طريقا طويلًا، وهي لم ترفع بصرها عنه! غير جلسته كي يراها بشكل أفضل.. جمالها لم يكن وحده يشغله، بل أنغام أغنية حزينة، ودموعها التي نزلت مع النغمات.
بدأ يشعر أنها تبادله نفس الاهتمام.. عيناها التي لم تتركه ولو للحظة جعلته متأكدًا أنها كانت تبادله الاهتمام»
سياق القصة يسير باتجاه بينما نهاية القصة تأخذ اتجاه معاكس، وهنا عنصر المفاجأة فنيًا مقبولة..
«تتوقف الحافلة.. ترتدي نظارتها السوداء لتترجل مع عكازها»
إذن هذه الفتاة الفاتنة كانت عمياء وهي لا تنظر إلى رجل القصة ولا تبادله الاهتمام والإعجاب ولا يمكن لعيونها العمياء أن تترجم مشاعرها الرومانسية لأنها لا تنظر إلى أي شيء أو شخص بالتحديد ليس إلا الظلام.
لو تدخل القاص مثلًا في السرد وجعل رجل القصة لا يعرف هذه النهاية هل ستكون القصة أفضل مما هي عليه؟
أي لو قال القاص، بأن رجل القصة سقط منه شيء ما في الحافلة فانحنى ليجده؛ بينما الحافلة تقف وتنزل الفتاة وهي ترتدي نظاراتها لتترجل مع عكازها! وحينما اعتدل رجل القصة في مقعده لم يجد تلك الفتاة!
أثر البيئة على قصص «جذور عنيدة»
القصة أداة تعبير عن الواقع لذلك من الضروري أن يستوعب القاص والمتلقي هذا الواقع من خلال فهم العلاقات المتحكمة بهذا الواقع وكذلك من خلال ما يطرحه الأدب ذاته من قدرة على كشف خفايا هذا الواقع فنيًا.
أما الزمن في قصص «جذور عنيدة» فيأتي أحيانًا من خلال الحلم أو التداعيات والمنولوج الداخلي والذكريات وأحيانًا من خلال الحوار الذي في هذه المجموعة لم يتم استخدام الحوار كثيرًا بينما كان الوصف والتداعيات موجودة بشكل مؤثر كما في (عاد من الموت)
«حياة القرية تختلف كثيرًا عن الحياة في أي مكان آخر.. تشرق الشمس لتعانق أشعتها أوراق الخضرة.. يتسابق الجميع للوصول إلى حقولهم التي كانت تزهر بألوان جميلة.. فجأة تناقل الأهالي خبر مقتل شاب في الحرب»
هنا رؤية فنية رائعة بين وصف الحياة والجمال وانتقاله حزينة مرعبة عن نتائج الحرب وعبثيتها في تغيير مسار الحياة من السعادة والصفاء إلى الحزن والكآبة، في القرى يكون هناك التكافل الاجتماعي، وفي زمن الحروب تحدث الأزمات في الوقود.
«ترك الجميع حقولهم، ليجتمع رجالات القرية في بيت والد المقتول.. كان مصابًا كبير لهم.. وبسبب الحرب لا يوجد وقود كاف للوصول إلى المدينة لنقل الجثمان.. السكان يخرجون الغاز المسال من الأسطونات ليضعوه وقودًا في السيارة.. تبرع الناس بما لديهم من خزين، وكان يجمع في إناء كبير يخبؤنه داخل حمام البيت»
التسلسل المنطقي للحدث في تناسق وخط مستقيم ولا نعرف متى ينحرف السرد 180 درجة ومن أجل أن يصل القاص بقصته إلى هدفها (قسوة الحرب والموت المجاني وصعوبة نقل الأخبار والإشاعات الكاذبة)
«قرر شقيق المقتول السفر صباحًا، بعد أن أصبح لديهم وقود كاف، فيما كانت القرية حزينة يترقبون وصول الجثمان.. وعند المساء أراد والد المقتول تفقد ما تم جمعه، ليتوجه إلى الحمام حاملًا فانوسه، لكنه لم يصل إليه!
بعد انفجار الوقود المدوي مات الرجل مع آخرين كانوا معه.. ذهلت القرية من الصدمة، في الصباح تم تجهيز الجنائز لنقلها إلى المقبرة»
لو جعل القاص وصول جثمان المقتول ودفنه مع أبيه ورجال القرية الذين قتلوا بالانفجار لا تكون القصة والنهاية قوية كما اختار القاص لها هذه النهاية التي تزيد من حزن القرية أكثر من مقتله «من بعيد لمحوا سيارة تقترب..صمت الجميع بذهول، وهم يرون الشاب الذي قتل في الحرب يترجل من السيارة».
الخاتمة
قصص المجموعة «جذور عنيدة» للقاص «خالد مهدي الشمري» تقدم برؤية فنية ناضجة ووضوح رؤياه الاجتماعية، أسلوبه سلسل، سهل، واضح، يستخدم جملًا رشيقة معبرة، وفي كل قصة هناك درسًا اجتماعيًا أو أخلاقيًا ومفاجآت غير متوقعة لنهايات حادة تعبر عن مجتمع متوتر مفتوح على كل الاحتمالات.