إبداع

«متاهة آدم» إبحار في الممنوع

جرأة لم يدنُ منها كاتب عربي ولم تجرؤ دار نشر عربية على الخوض في مثل تلك الروايات الصريحة

د. السيد الزرقاني
رواية «متاهة آدم» إبحار في الممنوع واللا مرغوب نفسيًا أو اجتماعيًا، وتأخذنا إلي فكرة جلد الذات أو الانتقام المجتمعي الذي يمارس كل شيء محرم في غلاف الفضيلة.
 
الجنس هو العمود الفقري لأحداث الرواية التي تنم عن جرأة لم يدنُ منها كاتب عربي ولم تجرؤ دار نشر عربية على الخوض في مثل تلك الروايات الصريحة، بالشكل الجريء الذي أخذنا إليه الكاتب بين صفحات الرواية؛ متخليًا عن قيود الكتابة العربية في استخدام تلك المفردات التي يتدولها الكل سرًا أو في أحاديثهم الهاتفية أو بعض الحوارات السرية هنا أو هناك.
 
«متاهة آدم».. رواية شاملة متحررة من التصنيف التقليدي لكثير من الروايات النمطية.
 
«نعم.. فمع اعترافه بأهمية الحب الجنسي، يتحدث (سولوفيوف) عن ضرورة استنارة الجسد واستلهامه، فالجانب الجسدي في الحب هام، لكن هل يعد الهدف الرئيسي، ويمكن للحب الحقيقي أن يكون بدون اتحاد جسدي، كما يمكن للتلاحم الجسدي أن يكون بدون حب وبعبارة أخري، إذا ما أصبحت الفيزيولوجيا هي الهدف فإنها تقتل الحب».
 

رواية «متاهة آدم» لون جديد من الأدب العربي

 
تلك هي أطروحه الكاتب العراقي والروائي «برهان شاوي» في رواية «متاهة آدم» الصادرة عن دار النخبة للطبع والنشر والتوزيع في طبعتها الرابعة في حوالي 504 صفحة.
 
هذه الرواية تُعد لونا جديدًا من الروايات في عالمنا الأدبي خاصة في الأدب العربي، الذي يتميز عن غيرة بخصوصية التكوين والتفرد في المحتوي بما يتماشى مع المورثات الثقافية والخلقية، من خلال تلك المفردات اللغوية والمحتوي الدرامي.
 
ولم تجنح الروايات العربية إلي تفاصيل الجسد والروح رغم التناول للعديد من تلك الرؤى الفلسفية لبعض الكتاب العرب والمصريين، إلا أن الحفاظ علي الخط الخلقي في تناول الأحداث أضاف عمقًا وتشويقًا دون الانزلاق لتلك التفاصيل، رغم أن الكثير من الروايات الأجنبية قد ترجمت إلي العربية في ظل التقارب الثقافي العربي مع المشرق والمغرب؛ إلا أن الكتاب والأدباء العرب قد حافظوا على عناصر البناء الدرامي في رواياتهم المتعددة.
 
ولكننا الآن أمام لون أخر من الروايات الأدبية فالكاتب «برهان شاوي» يعد من القلائل الذين مارسوا الحرية الكتابية بكل معانيها، وتجولوا في كل مفردات اللغة العربية والغير عربية؛ معتمدًا علي الإثراء الثقافي الذي اختزنه طوال سنوات اطلاعه على مختلف ألوان الفنون الأدبية خاصة في المشرق الاقصي في الأدب الروسي عامة، وهو لم يخفِ ذلك في متن كتاباته الأدبية المختلفة، فكان حريصًا علي ربط أبطاله بكثير من أبطال الآخرين في الروايات العالمية وأبحر كثيرًا في مفردات الذات الإنسانية.
 

رواية ثلاثية الأبعاد

 
ولكن رواية «متاهة آدم» تعد فريدة بين الروايات العربية حيثُ نجد بناء جديد للرؤى الروائية فيمكن وصفها بأنها رواية ثلاثية الأبعاد، الحوار والبناء فيها يعتمد في كل المواقف على ثلاث رؤى مختلفة، ربما تشارك في إنهاء الحدث أو ابتداء حدث جديد في ذهن الكاتب، ففي كل زاوية من زوايا الرواية تجد نفس المنظور الثلاثي «الواقع – الوعي – اللاوعي»، ربما كان الكاتب متعمد هذا الأسلوب التحليلي ليعلن عن فلسفة إبداعية فريدة في عالمنا العربي، وكان دائمًا متحررًا من أي هاجس مجتمعي يمكن أن يصطدم به.
 
وإذا كانت رواية «متاهة ادم» هي بداية مجموعة كبيرة من المتاهات إلا أنها تأخذنا إلي عالم روائي جديد وتجعلنا دائمًا في حالة من حالات الشك الدائم، إلى أن نصل إلي يقين وجودي، وتلك هي النظرية الفلسفية التي اعتمد عليها الكاتب متأثرًا بكل الأفكار الغربية في عالم الإبداع، وأصبح قاب قوسين أو أدني بأن يكفر بكل الإبداع العربي الرتيب والنمطي؛ ومن هنا كانت ثورته الداخلية التي دفعته إلى طريق الإبداع المتحرر من كل قيود المجتمعات الشرقية، التي تحمل بداخلها هذا الازدواج الفكري بين ما هو متاح وما هو داخل الذات الإنسانية.
 
مجتمع يدّعي الفضيلة وهو يعج بكل ألوان الفساد السياسي والاجتماعي والأخلاقي، حتى إننا نجد أن قمة الصدمة في نهاية الرواية في مشهد معبر عن رؤية الكاتب عندما نجد البطلة (حواء المؤمن)، وهي في قمة التدين وترتدي الحجاب تلجأ إلى الخيانة الزوجية وممارسة الجنس بكامل إرادتها مع جارها (آدم اللبناني)، رغم ما وصلت إليه من حالة التدين وارتداء الحجاب وقراءة القرآن، إلا أن ذلك عكس كل ما كان يدور في نفسها إلى أن تصل إلي وجود طفل الخطيئة من رجل آخر غير زوجها.
 

الواقع العراقي المأساوي في رواية «متاهة آدم»

 
وإذا كانت تلك النهاية إلا أنها لم تكن غريبة عن السياق الدرامي في متنها؛ فمنذ البداية نجد أن الكاتب قد حرص كل الحرص علي أن يأخذ القارئ إلي مشاهد بعينها، حيث يبدأ من الواقع العراقي المأساوي بين تفجيرات يومية تمزق الجسد العراقي وكان متأكدًا في قرارة نفسه إن هذا التمزق سوف يمتد إلى الجسد العربي، ثم يرتد مرة أخرى إلى من دبَّر تلك المشاهد الدموية لأنه دائمًا يشكك في كل أطروحة مسلَّم بها عند الآخرين، ويحاول أن يفكك تلك الطلاسم التي أحاطت بكثير من المسلمات.
 
ففي قلب الحدث الدموي لا يلتفت إلى تلك الجثث الممزقة هنا أو هناك ولكنه جلس يرصد فقط ذالك الرجل الذي يحاول الالتصاق بجسد امرأة، ويحاول ترويضها حتى اختفيا سويًا.
 

العلاقة بين الأدب والتحليل النفسي

 
الكاتب يجيد رسم تلك العتبات التي ينطلق منها إلى حالة السرد اللا نهائي في كل أقصوصة داخل رواية «متاهة آدم» ، وإذا طبقنا قاعدة التحليل النفسي على المنظور الأدبي عامة وتلك الرواية بصفة خاصة؛ فإننا نجد أن العلاقة بين التحليل النفسي والأدب تظل مسألة إشكالية.
 
فالناقد الفرنسي (جان بيلمان نويل) في كتابه «التحليل النفسي والأدب» أعاد قراءة فرويد والعلاقة بين التحليل النفسي والأدب بطريقة تجمع بين التاريخ والنقد، ولم يكتف بالعرض التاريخي قدر ما قام بقراءة تاريخية تقويمية، انتهى من خلالها إلى تقديم منهج جديد في النقد النفسي سماه «التحليل النصي»، يسمح بتركيز النظر على العمل الأدبي نفسه. إن «الأدب والتحليل النفسي» يشتغلان بالطريقة نفسها، فهما يقرآن الإنسان في حياته اليومية وداخل قدره التاريخي.
 

التحليل السيكولوجي للشخصيات

 
وهنا في تلك الرواية نجد أن الكاتب قد جنح إلى فكرة التحليل السيكولوجي لكل شخصة تناولها في متن كتابته الأدبية وكان دائمًا يحرص علي إبراز الجانب الوجداني لكل منها؛ سواء الإشباع أو الحرمان خاصة في الشخصيات النسائية، ونجح في إعداد مسرحًا مناسبًا لكل حدث.
 
وإذا ما طبقنا تلك النظريات النفسية علي مضمون الحدث الأدبي عند «برهان شاوي»، نجد أن هناك تطابق نصي مع الوعي الإنساني، وربما تستقر أفكار وجدانية ونفسية في ذاكرة اللا وعي أيضًا؛ حيث أعطى لنفسه حرية الإبحار في الممنوع واللا مرغوب أيضًا نفسيًا أو اجتماعيًا، وأخذنا إلى عالم نفسي جديد من خلال تشريح الوجدان في كل مراحله، سواء مرحلة الوعي الحسي أو اللا وعي.
 

فكرة جلد الذات

 
كان حريصًا فيما بين السطور، أن يأخذنا إلى فكرة جلد الذات أو للانتقام المجتمعي الذي يمارس كل شيء محرَّم في غلاف الفضيلة، كل الشخصيات التي تناولها الكاتب وهي تزيد عن 60 أو 70 شخصية (آدم – حواء)، كانت جميعها تدور في دائرة الشك أولًا فى الآخرين ثم الاتجاه إلى الانحراف الشديد سواء نفسيًا أو اجتماعيًا.
 
وهنا تتجلي عبقرية الكاتب في إعداد مسرح الأحداث في أسلوب أدبي بسيط غير معقد، وتجهيز الأبطال نفسيًا للحدث القادم، في حالة من حالات السرد الأدبي الجميل الذي يدفع القارئ إلي البحث عن النهايات في ظل تلاحق الأحداث داخل صفحات الرواية بمنظور ثلاثي، الكاتب والراوي والقارئ الضمني داخل الرواية (حواء المؤمن).
 
ويمكن رصد عدة محاور هامة في تلك الرؤية الروائية تتمثل في:
 

أولًا المحور المجتمعي:

 
حيث كان الكاتب حريص على رصد الوقائع المجتمعية منذ البداية الأولى في الرواية خاصة (بغداد) التي تمثل العتبة الأولى للانطلاق داخل أفكار الكاتب الروائية ففي (ص 7): «نهض قلقًا ليطل من النافذة المشرفة على مشهد مفتوح من بغداد ،فرأى دخانًا كثيفًا يتعالى من جهة منطقة الصالحية، وسمع صوت إطلاق كثيف للرصاص وهدير سيارات الإسعاف الذي يؤكد بأن كارثة قد وقعت… يااا لعبثية هذه الحياة!
 
إذ صار العراقيون يتعاملون بالأرقام مع عدد الضحايا؛ فالانفجار الذي خلَّف المئات أو حتى العشرات هو الذي صار يحظى بالاستنكار من الحكومة والأحزاب».
 
تلك الصور من المجتمع العراقي الذي أصبح أسير تلك الحوادث بعد الاحتلال، ربما كان ذلك المشهد هو إسقاط على حال البلاد العربية التي استسلمت لتلك السياسة الاستعمارية في الوقت الراهن دون ردع منها.
 
رواية «متاهة آدم» تأخذنا في رصد محكم إلى العراق في نهاية القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث العنف السياسي المرعب والانفلات الأمني والتحول من الشك إلى اليقين بالدمار والخراب الذي حلَّ بالمجتمع، ربما كان كل ذلك مرصودًا بعناية من الكاتب، إلا أنها نتائج حتمية لما حدث في عام 2003.
 
لم يكتفِ، بذلك بل أخذ القارئ إلى المجتمع الغربي في ألمانيا نموذجًا لحياة المغتربين عامة واللاجئين خاصة، وتعايش القارئ مع تلك التفاصيل المجتمعية بشغف وتتابع بعيد عن الملل الذي يتسرب إلي القارئ من كُتاب آخرين.
 
كذلك المجتمع التركي من خلال المقابلات بين (آدم المهندس – حواء الصاىغ وزوجها)، كان الكاتب موفق إلى حد كبير في نقل تلك التفاصيل للمجتمع التركي من خلال تلك الحوارات التي لازمت هذا المؤتمر العلمي.
 
 

ثانيًا المحور السياسي:

 
– حرص الكاتب على صناعة الحدث السياسي ليؤثر في البناء الدرامي لأحداث الرواية من البداية الأولي وهو ينقلنا من تلك الأحداث الدامية الناتجة عن التحولات السياسية في العراق وفي مواضع أخرى، يأخذنا إلى العبث بالمواطنين وحياتهم لمجرد أن هناك شك في عدم انتمائهم للحزب الحاكم في العراق في وقت ما، وأن هناك تدخُّل مباشر أو غير مباشر في كل المناصب من قِبل هذا الحزب.
 
وهذا الإسقاط من الكاتب يكشف عن مدى العبث السياسي والتسلط من قِبل الأنظمة الحاكمة في العراق أو غيره من الحُكام العرب تجاه تلك الشعوب العابسة واللاهية في ملذات حياتها، بعيدًا عن الانخراط في السياسية، بل كان الكاتب بارعًا في رصد حياة اللاجئين في البلدان الأروبية وكيف يُجبر اللاجئ إلى الخروج في مظاهرات مناهضة لحكم بلاده من أجل الحصول على حق اللجوء السياسي.
 
ففي (ص 432): «وقال لي إن أسهل طريق لذلك هو المشاركة في مظاهرات معادية للنظام تقيمها المعارضة العراقية، وإن التقتُ صورًا لنفسي وأنا وسط التظاهر كي يقدمها إلى المحكمة من أجل ضمان الاعتراف باللجوء السياسي، واليوم حضرت مظاهرة في مدينة (أيسن) أعلمني عنها بعض الأصدقاء، لكنني هناك تعرفت على كثير من العراقيين من مختلف الجهات السياسية.
 
هل تصوريين أن هناك الكثيرين من المعارضين الإسلاميين ومن الشيوعيين والأكراد؟ هؤلاء كنا نخاف أن نذكر أسمائهم في العراق، اليوم كنت معهم في مظاهرة واحدة، ورفعنا الشعارات ضد النظام؟؟… لاتنسَ يا دكتور هؤلاء الذين يتظاهرون هنا في ألمانيا لم يتجرأ أحد منهم أن يفتح فمه في العراق، وربما كان في الحزب وربما الآن يحتاجون إلى صور يثبتوا فيها أنهم ضد النظام كي يضمنوا البقاء في ألمانيا».
 
 

ثالثًا المحور الجنسي:

 
-ربما كان هذا المحور هو العمود الفقري لأحداث رواية «متاهة آدم » التي تنم عن جرأة لم يدنُ منها كاتب عربي ولم تجرؤ دار نشر عربية على الخوض في مثل تلك الروايات الصريحة بالشكل الجريء الذي أخذنا إليه الكاتب بين صفحات الرواية متخليًا عن قيود الكتابة العربية، في استخدام تلك المفردات التي يتداولها الكل سرًا أو في أحاديثهم الهاتفية أو بعض الحوارات السرية هنا أو هناك.
 
هذا المحور هو صانع الحدث في تلك الرواية، فمع انطلاق الكاتب إلى فكرة الرواية وهو يصر علي إبراز تلك العلاقة الجسدية بين آدم وحواء ربما كانت في شكل شرعي (زواج) أو غير شرعي (زنا المحارم – خيانة)، وكان حريصًا على أن تلك العلاقة الفسيولوجية يمكن أن تكون في كافة المراحل وفي كافة الفئات المجتمعية، فلا تفرِّق بين أستاذ جامعي أو ضابط أو مهندس أو سكرتيرة أو حتى بين والد الزوج وزوجة ابنه، سواء كانت الرغبة من جانبه أو خطة من جانبها للإيقاع به في تلك المغامرات النسائية.
 
 

مشاهد متحررة من كل القيود

 
وهذا ما جاء في متن الرواية في مواضع عدة (ص 259):
 
– نعم نحن النساء لدينا كمية هائلة من الخبث مناجم إذا أردنا أن نعترف بها فلن تنتهي..
 
– أكملي
 
نظرت إليه فجأة بتركيز وكأنها تعرفه منذ سنوات وقالت:
 
– أتعرف يا آدم أشعر بالتقزز من تلك المرأة كنتها في تلك الفترة؛ ففي تلك الليلة زينت نفسي ولبست الثوب الشفاف والمثير جدًا الذي يكشف كثيرًا من جسدي دون أن يستر أي شيء، تمددت على سريري بانتظاره ووضعت أحد الأفلام الجنسية التي جلبها لي زوجي في الجهاز، وأخذت أشاهده… وعندما سمعت حركته وهو يدخل البيت كشفت نفسي وعن المنطقة السفلي من جسدي… كانت خطتي لإغواء العم.
 
ألقى نظرة على تلك المشاهد على شاشة التلفاز الذي كان يعرض الفيلم، جلس على حافة السرير، أخذ يتأمل عريي حدَّق بشبق في جسدي العارى… فتحت فخذي سحبت ثوبي لأعلى… وضع رأسه علي بطني وبدأ يداعبني، فهبط يقبلني من أسفل».
 
تلك المشاهد المتكررة بين شخوص الرواية تنم عن تحرر كامل من قيود المجتمع أو حتى الديانات والمذاهب، بل هو أراد أن يثبت أن كل ذلك يحدث في الخفاء أو العلن بين كل الأفراد، ولكن الكل يحاول أن يرتدي ثوب الفضيلة أمام الآخرين.
 
 

رابعًا المحور الثقافي:

 
– الكاتب في متن روايته كان يجنح بالقارئ إلى تلك الرؤية الثقافية التي كانت غالبة على هؤلاء الأبطال ويخلق حالة من حالات الحوار الثقافي بينهم، ليصنع حالة من حالات التقارب الفكري والمعنوي، الذي ينقلب في بعض المشاهد إلى تقارب عاطفي أو حتى علاقات غير سوية، وهذا ما تبعناه في تلك العلاقة بين الدكتور (آدم التائه – حواء الغريب)، وتلك العلاقة بين (آدم المطرود – حواء الصايغ).
 
كان الكاتب دائمًا في حالة إصرار على إبراز الجانب الثقافي من خلال تلك الأفكار التي طرحها في تلك الحوارات وإبراز الجانب الثقافي لديه من خلال القراءات المتعددة له في الأدب الروسي والصيني والتركي، إلي جانب الفلسفة.
 
(ص248): «دخلت مكتبة الجامعة أفتش عن كتاب (معنى للحب) لفيلسوف روسي اسمه (فلاديمير سولوفيوف) عاش قبل الثورة البلشفية، حينها أردت أن أكتب بحثًا عن فصليا عن (الأيروس في الفن)».
 
وحاول الكاتب كثيرًا طرح تلك الأسئلة التي كانت تراوده في فترات متعددة من حياته؛ ليجيب عنها من خلال تلك الأطروحات الثقافية؛ ليخلق لنا شخصيات ذات ازدواجية ثقافية وفكرية ربما تكون ناضجة في بعض الأحيان أو مشوشة في أحيان أخرى.
 
 

خامسًا المحور النقدي:

 
ابتدع الكاتب أسلوب جديد في متن تلك الرواية، وهو أسلوب القراءة النصية لكل فصل من فصول الرواية أو حتى فصول القصة التي كتبت في متن الرواية (المرأة المجهولة)، وإلقاء الرؤية النقدية بشكل ثنائي من جانب (آدم البغدادي) أو من جانب (حواء المؤمن)، وربما كان هذا النقد له سبب في تحول الكثير من الأحداث الدرامية في بناء القصة من حيث الإثارة والتشويق كذلك السرد الأدبي الذي لجأ إليه الكاتب كما في (ص 198):
 
«حينما أنهت (حواء المؤمن) هذا الفصل شعرت بالتعاطف مع (حواء الصايغ) أنها امرأة برغم الثراء الذي هي فيه لم تنكر طفولتها الفقيرة وراودها شعور بالتعاطف مع المهندس (آدم المطرود) أيضًا».
 
(ص199): «انتبه آدم البغدادي إلى تضمين الرواية نصوصًا شعرية هي تقنية قديمة، فقد ترك الشاعر الروسي السوفيتي بوريس باستر ناك مجموعة شعرية كاملة».
 
(ص214): «أحسَّ (آدم البغدادي) أن الدكتور (آدم التائه) كان موفقًا في اقتناص حالة التداخل التي جرت بين (حواء المؤمن) زوجة الدكتور (آدم التائه) وبين المهندسة (حواء كوناي) لحظة الممارسة الجنسية».
 
– هكذا كان الكاتب يطرح رؤية نقدية في نهاية كل فصل من فصول روايته ومدى التفاعل الداخلي أو الخارجي مع الحدث الروائي أو لغة السرد، ومدي تأثيرها وتباينها لدى المتلقي، وأحيانًا يضع مقارنه ذاتية بين فصولها؛ مما يجعلك تعيش حالة جديدة لم يجنح إليها أديب من قبلة؛ ألا وهي حالة النقد الذاتي مما يدفعك إلى التعايش مع كل ما يكتبه والتفاعل معه.
 
 

سادسًا محور الشك:

 
كان الكاتب في كل سطور الرواية يبحث في مكنون ذاته عن أسئلة الشك المتبادل بين تلك الشخصيات التي رسمها بعناية في متن روايته وأجاب عليها، هو ذاته لديه الكثير من الشكوك في كثير من القضايا الوجودية والنفسية في مكنون الرجل والمرأة في المجتمعات العربية والغربية على السواء.
 
وأراد في تلك الرواية أن يطرح لنا الإجابات بين السطور، ربما كانت تلك الإجابات صادمة للبعض الذي عاش طوال حياته محافظًا على تلك القيود والأساطير البشرية التي توارثتها الأجيال المتعاقبة بشكل لا إرادي، فهو كسر تلك الأساطير والقيود ليحلِّق في عالم إبداعي فريد وأرض لم يسبقه إليها أحد من المبدعين العرب، صنع أسطورة فلسفية عربية جديدة في مجال الأدب الروائي العربي.
 
رصد الشك من جانب والد (آدم التائه) في أمه، وأن هذا الشك نتج عنه حياة عير سوية بين الأب والأم ، ووصل الأمر إلى أن الابن عرف أنه ليس من صلب أبيه الذي يحمل اسمه… كذلك الشك في علاقة آثمة بين والده وزوجته (حواء المؤمن)، فهو يعلم أن والده له علاقات نسائية متعددة ولذلك عمل على التخلص منه…
 
كذلك تلك العلاقة بين (آدم تورك) وأبيه الذي لم يشعر في يوم من الأيام أنه من صلبه، وعندما علم أن زوجة ابنه قد حملت منه وأجرت عملية إجهاض حزن بشدة لأنه كان يريد بالفعل ابن من صلبه… العلاقة بين (آدم التائه) وجاره (ادم اللبناني) قامت على الشك أيضًا… كل تلك الشكوك كانت مقصودة من الكاتب ليطرح علينا الإجابات اليقينية التي رسخت في ذاته.
 
 

سابعًا محور الشعر:

 
– ليس بجديد أن يحرص الكاتب على تضمين روايته تلك النصوص الشعرية المتعددة التي تخدم حواره الأدبي بين شخصيات روايته؛ فهو يقلد بعض الأدباء الروس في هذا المحور مثل الكاتب (بوريسباسترناك) أو الروائي العربي العراقي (حميد العقابي) في روايته «أصغي إلى رمادي».
 
وكان موفقًا في اختيار النصوص التي أراد أن يخلق من خلالها حالة من حالات التقارب بين شخصياته الروائية، مما أضاف بعدًا إبداعيًا للعمل الروائي الذي بين أيدينا، وإن كانت معظم النصوص الشعرية تضفي جوًا رومانسيًا وفلسفيًا، يتماشى مع حالة الإنصات والشغف من جانب المتلقي في السياق الحواري كما حدث بين (آدم المهندس – حواء الصابغ)، وكان الكاتب حريص على تنوع النصوص الشعرية من الهندي إلى التركي إلى الإسباني إلى العربي، مما يدل على ثراء اللغة والإبداع عنده وتعدد روافده الأدبية.
 
 

خاتمة

 
بعد تلك العوالم المتعددة التي عايشنا فيها الكاتب عبر شخوص اختلف بهم السبل وتعددت عندهم الأسئلة الوجودية الحائرة، انطلاقًا من المحلي إلى العالمي؛ علينا أن نقر بأنّ تلك الرواية تتميز بثراء مضمونها، وتعدد مشاربها، وانتماءاتها ما بين الواقعية والرومانسية والاجتماعية والنفسية؛ فهي رواية تنتمي لكل هذه التصنيفات، الأمر الذي يمكن معه أن نطلق عليها الرواية الشاملة المتحررة من التصنيف التقليدي لكثير من الروايات النمطية.
 
أضف إلى ذلك قوة بنائها الفني؛ والإمساك ببراعة بعنصري الزمان والمكان، والابتكار في تعدد المكان ورحابته، وتعدد العقد والإشاعات بشكل مرحلي بنائي؛ يسهم في تكوين العقدة الرئيسة والحل، والمحافظة على عناصر التشويق بشكل دائم ومستمر، مع نوع من التوتر الشيق، ورسم الشخصيات بهدوء من دون إخلال في البناء الفني والدرامي، وإن كانت بعض مقاطع الرواية عبارة عن نصوص شعرية؛ إلا أنها سارت على نفس النهج الأدبي المتدرج والرابط بين عنصري الإبداع والابتكار والعمق الفلسفي في النص الأدبي.
 
وسوف يجد المتابع أن الكاتب كان متنوع في أفكاره ومتحرر من تلك البناءات المعتادة في الرواية العربية، فهو حريص على التجديد ولم يكتفِ بنمط مجتمعي واحد حتى في انتقاله من مكان إلى مكان؛ كان حريصًا على رسم البناء الاجتماعي والمعماري، وذهب في مواضع كثيرة إلى التحليل النفسي والسيكولوجي للراوي؛ مما أضاف متعه للقارئ عند تصفح الرواية والتعايش مع أبطالها بشغف وحب.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى