إبداع

«متاهة آدم».. قصة الإنسان بين المقدس والمدنّس

دلالة أسماء العلم في توليد المعنى للروائي برهان شاوي

عمر السعيدي
Latest posts by عمر السعيدي (see all)
تبدأ هذه الرواية بمقدمة نتعرّف من خلالها الشخصية الروائية المبتَدَعة من الكاتب نفسه والتي قُدّمتْ لنا على أنها تفكّر في كتابة رواية وتتهيأ لضبط مادّتها وتشكيل بنائها.
وهذه الشخصية المفترض فيها كاتبًا هي آدم البغدادي. وهي شخصية مكلومة، موجوعة، تطاردها كوابيس الحرب والموت المرتبطة بواقع العراق السياسي وانتفاضات أقاليمه الجنوبية وتمرد أكراد شماله.
إنه عراق التسعينات «دوّى انفجار هائل فاهتزت البناية. فرّ آدم البغدادي من نومه مرعوبًا على صوت الانفجار الذي ارتجّت لقوتهه جدران الشقة وأرضيته… نهض قلقًا ليطل من النافذة المشرفة على مشهد مفتوح من بغداد فرأى دخانًا كثيفًا يتعالى من جهة منطقة الصالحية» ص9.
في هذه اللحظة استحضر صورة صديقه الجامعي العراقي الذي هاجر إلى دول الخليج وحملّه حكايات وأسرارًا يمكن تحويلها، مع ما احتفظت به ذاكرته من أحداث تصف معاناة العراقيين في حلّهم وترحالهم في سنوات الجمر، إلى عمل روائي يحكي مأساتهم.

كيف يكون الإبداع الروائي

ولكن عملية عملية الإبداع الروائي صعبة فلا يكفي أن تسمع من الآخرين سردًا لأحداث عاشوها ولا تصويرًا لمشاعر فارقة ألمّت بهم حتى تكتب رواية. هذه هي أسئلة الكتابة التي تساءلها آدم البغدادي. وسيظلّ يسألها والرواية تتقدم فصلًا فصلًا وأبطالها يظهرون على مسرح الحياة ويختفون، ينحتون كيانهم، فيفلحون حينا ويفشلون، يحزنون، يفرحون، يقبلون على الحياة بنهم وفي لحظة غفلة تزلّ أقدامهم فيقعون ويختفون من مسرح الحياة.
يسألها آدم البغدادي، ويسألها آدم التائه، بطل الرواية الرئيس الذي أوكلت إليه مهمة كتابة الرواية. وتسألها حوّاء المؤمن زوجة آدم التائه وهي تقع صدفة على فصول من هذه الرواية التي يكتبها زوجها (المرأة المجهولة) أو  «متاهة آدم».
ترضى عن فصول قد تكون هي بطلتها. تستغرب سير أحداث لم تكن تتوقّع نهايتها. تقيس بعضها على حياتها الخاصّة. وقد تتقمص حيوات متخيّلة أنشأتها الرواية فيصبح متخيلّ الرواية واقعها ويصبح عالم الرواية عالم الحقيقة في نظرها ولا فرق.
تنتصر لبعض الشخصيات، وتشك في أخرى ولا تقتنع بسلوكها، بل وتسخط على آخرين كالمحقق آدم التكريتي وممارسته أبشع أنواع التعذيب على المتهمين زورًا من خلال تقارير ترهب المنتقدين للنظام والمعارضين له على حدّ السواء، بل وتفكّر في إقامة موكب عزاء لهم كما لو كانوا من الأئمة الشهداء. فتتهيأ لهذه المنسبة بلباس يلائم المناسبة وتقرأ الفاتحة ترحّما على أرواحهم.
ومن وراء هذا وذاك راو يراقب ويطلب تعديل سير الرواية والحفر في دواخل شخصياتها. ويظل آدم التائه يسأل حواء المؤمن ليستفسر عن فعل أتته شخصية أو عن رأي اتّخذته. الرواية يكتبها أبطالها، أليست هذه هي فلسفة «برهان شاوي»؟

مفهوم الرواية عند برهان شاوي

الرواية مشروع حياة جماعي وعالم حفر حقيقي يجري على الأرض وتفعل فيه السياسة فعلها ويتشكل من أغوار النفس وفعل التخييل وحركة الحياة وثقافة العالم وخصائص البيئة. ذلك هو مفهوم الرواية عند برهان شاوي.

وتنتهي الرواية بانتهاء الدور الذي تكون الشخصية قد أدتّه فبنت الصرح، صرح الرواية واستكملت الفعل، الفعل الروائي، أي فعل الحياة.
ولذلك حين تنتهي الرواية في فصل (سبات آدم.. يقظة آدم)، ينتهي دور آدم البغدادي، ليس في الكتابة وحدها وإنما في الحياة أيضا. «طوى آدم البغدادي آخر صفحة كان قد دوّن عليها ملاحظاته وتعليقاته على النص الروائي الذي كتبه والذي أطلق عليه عنوان متاهة آدم» وانتهائه يأتي آدم العراقي زائرًا دون سابق معرفة ولا استئذان. يطلب كأس عصير فيسرع آدم البغدادي ليقدّم واجب الضيافة. لكنّ طلقة كاتمة قاتلة تأتيه من الزائر الغريب ترديه قتيلًا.
«اتّجه آدم البغدادي إلى المطبخ. فتح الثلاجة وأخرج الدورق الزجاجي الذي كان فيه بعض عصير البرتقال وهمّ بسكبه في القدح الذي كان أمامه. فجأة أحسّ بوخزة في مؤخرة رأسه، وخزة صغيرة لكنهّا مؤلمة لم تستمر سوى ثوان. أحس بالظلام..الظلام .. وبخفة هائلة..ص327».
إنّه موت الكاتب وحياة الفعل الروائي. كم جميل هذا التصوير من برهان شاوي!

بين المقدّمة والخاتمة يتشكل جسد الرواية قسمين.

قسم جاء تحت عنوان «متاهة آدم» ويضم ثمانية فصول هي:
1. الكابوس
2. يوم عادي.. عادي جدًا
3. محنة حواء المؤمن
4. النساء خُلقن هكذا
5. أحلام وكوابيس
6. هروب آدم التائه
7. حمار في السرير
8. المرأة المجهولة
وقسم ثان جاء تحت عنوان: «المرأة المجهولة أو متاهة آدم»، ويضم الفصول التالية:
النهاية، تحولات حواء المؤمن، تحولات الدكتور آدم التائه، صلاة..قبر.. أشباح واغتصاب.. الجني الأزرق. باب الضياع. طفل الخطيئة. شهران من الشك. بصقة النهاية.

الشخصيات ومتاهة الأسماء:

تَسَمىّ أغلب شخصيات الرواية من الرجال باسم آدم إلا فيما ندر. وتَسَمى أغلب شخصيات الرواية من النساء بحواء. ومن هذا المنطلق نجد أنفسنا أمام قصة آدم وحواء ، أي قصة الإنسان بين المقدس والمدنّس. يقبل على الخطيئة ويستملحها أو يأخذ بالإيمان لينجو من الضلال. وما إن يقع في ظنه أنه استقام حتى تغلبه شهوته وتوقعه فعلته من جديد.

يُتبع الموصوف آدم بنعت فيصير الاسم مركبًّا نعتيًا. وقد يبدو لنا هذا النعت في حقيقته جينة من جينات التمييز بين آدم وآدم أو بين إنسان وآخر.
فلعلها تلك الخصائص التي يكتسبها الإنسان بفعل الجغرافيا والدين والعرق والثقافة: آدم التائه، آدم الولهان، آدم عصمان، وآدم كوناي، وآدم المطرود، وآدم الصاحب، وغيرهم. عرب وكرد وترك وفرس. عراقيون يجمّعهم الوطن برغم العرق والدين. وجميعهم مكتوون بحكم الدكتاتور وإيدولوجية الحزب الواحد.
وكذا الأمر بالنسبة لشخصيات الرواية من النساء. فكلّهن حواء وما يميزهن هو اللقب أيضًا. قل جينات خاصة تمييزية. حواء المؤمن، حواءالغريب، حواء الصائغ، حواء كوناي، حواء اللهيبي، حواء الفاكهاني. كل النساء واحدة.
فكأن الرجال جميعهم مثال مستنسخ عن أصل وكأن النساء جميعهن مثال مستنسخ عن أصل. أو ليس آدم هو الجد ، هو الأصل، وهو الواحد، هو الأول خلقًا والأول سكنًا بالجنة وأول المتذوقين من ثمرها وأول القاطنين الأرض، اليس هو النبي؟ ونحن جميعنا متعدد آدم.
أو ليست حواء هي الأم وجميع النساء متعدد حواء. كلّ آدم يحب ويكره، يخطئ ويصيب. يأسف، يفي بالعهد ويخون. يأخذ بالباطل ولا شيء ينجيه من نفسه. قطعة في دولاب نظام حكم آيل إلى السقوط.
شكّاك وشكه يقين. يسعى للذّة وحين ينالها يشعر بالتخمة وعدم الرغبة. قد يصيبه حالة من الندم ولكنّه يعود إلى المكابرة بعد حين. النسيان وحده كفيل بالذاكرة.. يصادق ويظلّ متهيّبًا الصديق خائفًا متى يصيبه بالسهم القاتل، يخاف السلطة، ويتقرب منها وهو يدرك فسادها، ينافقها طمعًا في بعض ثمارها. يتناسى إلى حين جورها، كتائه أو لا مُبال.
سلطة البعث في العراق، عمياء، باطلة، كَلُوبُ يتملكها سعار فتقتل وتسجن وتشرّد ويكون ممنونًا إلى الله من نجا بجلده من بين براثنها ولكن الغربة لا تنسي الوطن، وإن كان العراقي في الصين.
أليس هذا هو التيه والحيرة؟ فما الحقيقة وما الباطل، وما الأنا وما الآخر؟ أليس في كل النساء حواء المؤمن وفي كل الأوادم آدم التائه؟

شخصيات الرواية وأدوارها

1. الأوادم : صانعو الكتابة

في هذه الرواية «متاهة آدم» ثلاث شخصيات اختصت بالرواية تصورًا وصياغة ومعاني.
آدم البغدادي فكر في كتابة رواية بطلها بعض من سير شخصيات عراقية وخليجية. فكر في الشكل الأدبي السردي الذي سيحمل المعنى، لكنه أوكل هذه المهمة لشخصية ابتدعها هي آدم التائه. وهي في كل الحالات شبيهه أو مخلوقه الذي نفخ فيه من روحه.
هل نقول إن آدم البغدادي هو مؤسس الفكرة وآدم التائه مبدعها ومنجزها؟
الأول هو الفكرة تراود كاتبها، والخيال يهيم به، والثاني هو محقق الشكل الفني والمعنى. أم هما معًا واحد وليس الأمر أكثر من لعبة أسماء.

2. الأوادم مقترفو الخطيئة؟

والد آدم التائه يشك في أبوّته لابنه، شكّه في زوجته التي تخونه مع قريب، كان هذا الابن ثمرة تلك العلاقة. ولكنّه سكت على مضض وأخفى الأمر لدوافع خاصّة. ساهم في تعليم ابنه حتى تخرّج لكنه لم يظهر له حبًا أبدًا وبدافع إغاظة أم آدم التائه -أي زوجته- كان يضاجع نساء كثيرات أمامها دون خجل، وكان هذا يعذّبها ويرهقها إلى أن ماتت.
وما فتئ حين فارقته يتقرب من حواء المؤمن زوجة ابنه مستغلًا تواجده الدائم معها بالبيت في غياب الابن فيحادثها ويعابثها فأخذت تستلطف مراودته، ثمّ شرعت تغويه إلى أن كان يوم شعرت فيه بالرغبة في الجنس.
وكان العمّ مثارًا وهي جميلة ورغبتها لن تخمد وقد تهيجت. فمارسا الخطيئة واستحلياها إلى أن كان يوم صار شكّ الابن في أبيه قويًا، مريبًا فقرر الهجرة إلى خارج العراق، إلى الأردن أولًا وأودعه دار المسنين ببغداد.
وكذا نفس الأمر مع المهندسة حواء كوناي تركية ألمانية. هاجر والدها مع أمها إلى ألمانيا خفية قبل زواجهما فرارًا من العائلة وهناك تزوجا. وفجأة مات الأب وترك البنت يتيمة غريبة، مع جراية تقاعد ضعيفة. عملت الأم وتعبت من أجل تعليمها ثم ماتت هي بدورها فجأة، وقد صارت البنت شابة. اجتهدت في دراستها حتى تخرجت مهندسية بناء. خطبها عمها آدم كوناي لابنه آدم تورك فتزوجا، ولكنه كان عاجزًا عن ممارسة الجنس، وكان الابن سائق شاحنة يخرج في سفرات طويلة لينسى ثم يعود بعد أيام.
صارت حواء كوناي تغوي عمها، خاصة وقد سبق ومارست الجنس في الجامعة مع صديقها التركي آدم عصمان، إلى أن تمكن منها فاكتشف بكارتها، وقد كانت قد رتقت الغشاء استعدادًا للزواج. غضب حين عرف الحقيقة وتعمقت مأساته بانقطاع النسل. استحلى مع ابنة الأخ ممارسة الجنس العنيف وقول البذاءة إلى أن أصيب بالجنون فانتحر بمسدسه.

حواءات في متاهة آدم

مَنْ مِنَ البنتين حواء المؤمن ومن منهما حواء كوناي؟ مَنْ منهما التركية ومن منهما العراقية. لماذا سعت كلتاهما إلى إغواء العم وممارسة الجنس معه. ثم ما الذي جعلهما تشتركان في حب جنس المحارم والدوس على المقدس؟ ثم كيف التقت أمزجتهما على نفس مشاعر الهوس بالجنس؟. كلتاهما تعرضت للاغتصاب في أول الأمر وعاشت تحت نفس الضغوط العائلية.
حواء أغوت آدمها وآدم في النص المقدس هو الزوج. أما هنا في دنيا الرواية فحواء أغوت محرمًا ومارست معه الجنس. كانت نتيجة إغواء حواء لآدم في الجنة الطرد إلى الأرض. أما نتيجة إغواء الآدميين في الرواية فكان الإبعاد والنفي مرة والجنون والانتحار مرة أخرى.
لا شك أن اشتغال الكاتب على حواء الأولى والثانية هو اشتغال على الجانب الموحّد من التكوين النفسي والجنسي للمرأة، وهو سمة التماثل بينهما.
وفي النص الروائي حواءات أخريات فكرنّ بالخيانة وزينّها بالصداقة الجارفة حينًا، وبحب الفن حينا بحثًا عن المختلف عند رجال غير أوادمهن لكن حياتهن انتهت بجريمة قتل. كلّ في شقتها دون معرفة القاتل، وكان مآل المتهم الأول الفرار من الوطن والمتهم الثاني الإعدام باطلًا.

3. حواء وغواية لم تتم: حواء تبحث عن مغامرة في الحب

حواء الغريبة: طالبة حقوق بالسنة الرابعة. زوجة لابن خالها الضابط العسكري بالجيش العراقي. مثقفة، محبة للأدب والحياة. تفتقد وجود زوجها الذي يأتي في إجازة ليوم أو يومين ثم يغادر إلى الجبهة. وإذًا لا امتلاء عاطفيًا تحقق. يؤنسها في هذه الوحدة والدها المثقف، المتحرر، قاريء الروايات. اطلع على رواية آدم التائه وأبدى رأيه فيها. تبنت البنت معظم آرائه النقدية. وأبدتها لأستاذ الأدب آدم التائه.
ومن خلال الحديث عن الأدب والفن نشأ إعجاب تحول إلى حب. ففكرا معًا في تسويغ شقة دفعت حواء الغريب مصاريفها والتأثيث. يلتقيان فيها معًا لبعض الوقت بعيدًا عن الرقيب، كلما تيسر الأمر. ولكن اللقاء لم يحصل. اختلفا في الموعد. جاءت بعدها لمرات ولكن الباب مغلق ولا أثر لمجيئها إلى أن انتشرت رائحة تعفن جسدها. فجاء الأمن. وخوفًا من أن تلبسه الجريمة وقد شوهدا معًا في أكثر من موعد. قرر آدم التائه الهروب إلى الأردن ثم الهجرة إلى ألمانيا وطلب اللجوء السياسي.
حواء الصائغ: زوجة رجل الأعمال العراقي آدم الولهان، التقت وزوجها بآدم المطرود في نزل اللوبي باسطنبول على البحر الأبيض المتوسط في ندوة دولية مخصصة للفن المعماري الهاي تيك. تعارفوا وتوطدت بينهم العلاقة. قاموا معًا برحلة بحرية إلى القلعة. حواء الصايغ مثقفة، تكتب الشعر العاطفي، وتهتم بالأدب. انجذب إليها آدم المطرود، هذا المهندس المحب للفن التشكيلي. أشياء كثيرة ربطت بينهما: الفن والشعر والمشاعر. وسيسعيان إلى التزاور في بغداد عند العودة وعيش قصة حب صمتًا. لكن يحصل ما يربك هذه العلاقة الجميلة. تموت حواء الصائغ في شقتها ويُتهم آدم المطرود بقتلها ويبدأ استنطاقه ثم سجنه وإعدامه.

حواء تسعى للبوح في متاهة آدم

نلاحظ من خلال الزوجتين حواء الصائغ وحواء الغريب. أن حواء بصفة عامة تحب الشعر والفن التشكيلي والرواية وتسعى إلى البوح. وأن الفنون تبدو وكأنها مصدر غواية تخرجها من عزلتها وتدفعها إلى التحرر والتعبير عن ذاتها. وفي كلتا الحالتين كان الفن والثقافة هما الباب الذي يسمح لهما بالتواصل مع الحبيب. فوالد حواء الغريب يتحدث معها في شأن رواية آدم التائه، وربما ناقشها في كثير من التفاصيل الخاصة بالحب. وزوج حواء المؤمن لا يرى مانعًا في أن تلتقي زوجته آدمَ المطرود في المنزل في غيابه ما دام الغرض شريفًا، أي الحديث حول الأدب والفن وبالتالي الترفيه عن الزوجة وتحرير طاقتها الإبداعية والعاطفية.
لكن حواء الأولى وحواء الثانية تنشدان القرب من هذا الصديق الغريب. وتتفتحان أكثر في حضرته، وربما فكرتا أيضًا فيتذوق الطعم المختلف عن آدم الزوج. كل منهما سعت أن ترتاح للحبيب. وكل منهما تفكر مستقبلًا في ممارسة الجنس.
تموت الأولى وحيدة في شقة غريبة بعيدة عن بيتها مع ما يلحق ذلك من عار وتموت الثانية وحيدة في شقتها هي أيضًا وتُعتبر ميتتهما جريمة مقترفة لا غير.. هل أن حواء في هذين المثالين هي رمز للنّية يخطئها القدر أم للاشتهاء والرغبة يطفئها الموت..؟
4. «متاهة آدم» نص تتضافر فيه نصوص
الرواية عالم وحياة. وكتابتها تتطلبّ دراية ومعرفة بفن الكتابة عامة وبفن كتابة الرواية خاصة، ولا يكفي أن تمتلك التقنية ولا تعرف كيف توفر مادتك التي منها ستنسج حكايتك. ولذلك كان لزامًا على كاتب الرواية أن يكون مثقفًا متبنّيًا لكثير من المعارف، لأن نسج رواية يتطلب سدى خاصًا وخيوطَ لحمة مختلفة المادة واللون والحجم.
وهذه الخيوط هي اللغة أولًا، وضرورة أن تلائم موضوع الرواية، إلى جانب مجموعة معارف في التاريخ والجغرافيا وعلم النفس والفنون والقانون والفلسفة والنص المقدس والأساطير وغيرها. ويقع توظيف هذا بقدر حاجة الكاتب إلى بناء الشخصية وتأصيلها في المكان والزمان، وإنطاقها برؤى العصر ولغته ووعيه.
أمّا على مستوى الخطاب فإن الكاتب يركبّ خطابات مختلفة ليبني خطابًا روائيًا موحدًا، خاصًا، لأن الرواية جنس أدبي يحتوي كل الأجناس الأدبية الأخرى ويوظفها لبناء معماره الخاص.
وسنبين كيف أن برهان شاوي كان مدركًا أن الرواية تُحيل على تعدد الخطاب وتنوع المعارف مما يجعلها نصًا جامعًا.

النص المقدس: القرآن

قال تعالى: «قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ» (الأعراف 24-25)
– الأخبار والسيرة الذاتية: ومن خلال اللقاءات معه سمع منه قصصًا مختلفة عن رحلته من لحظة خروجه من البلاد حتى عودته القصيرة إلى بغداد التي انتهت نهاية فاجعة – ص11.
– جغرافية المدن وخصائصها: يقع القسم الخاص باللاجئين في الطابق الخامس من بناية بلدية (ركلنك هاوزن) الألمانية التي تقع ضمن منطقة الروور الشهيرة بمناجم الفحم والتي تتبع مقاطعة نورد راين فستفالن.
– السينما: نقل مشهد من فيلم «كان الفيلم يروي قصة امرأة يهودية هربت من الجنود الألمان وحينما وصلت إحدى القرى اختفت في كوخ أحد الفلاحين الأغنياء الذي أعجبته حين رآها ولم يخبر عنها واتخذها عشيقة». ص34.
– علم النفس ونظرية الإبداع: أتذكر المحلل النفسي والمفكر (غوستاف يونغ) ونظريته عن جبل الثلج في توضيح العلاقة بين الوعي الذي يشبهه بالقمة البارزة من جبل الثلج وعن اللاوعي الذي يشكل ما تبقى من الجبل المغمور في أعماق المياه فهل يستمد الكاتب من لاوعيه وبلا وعي أثناء تشكيله وإنجازه للعمل الفني. ص40.
– التاريخ والسياسة: كان العراق يمر بمشاكل سياسية وحرب أهلية بين الحكومة والكورد الذين كانوا يقاتلون في الجبال وكان كل من ينهي دراسته عليه أن يخدم إلزامًا في الجيش، وكان معظمهم يرسلون إلى جبهات القتال في الجبال لمواجهة البيشمركة الكورد – ص44.
– حكايات الجن أو الخرافات ص 320: «مدّ المخلوق الفضي المائل للإخضرار وجهه إليها فامتد لأكثر من متر حتى صار وجهه قريبًا منها على بعد سنتمترات قليلة. لم يكن يتنفس، وبرغم وجود أنف يوسط وجهه الخالي من الملامح إلا أن أنفه كان بلا منخرين. أغمضت عينيها خوفًا، لكن بعد ثوان فتحتهما فرأت في موضع عينيه ما يشبه المجرات والكواكب والسحب الكونية، ثم سمعت صوتًا وكأنه صوت ميكانيكي».
ولو تتبعنا متن الرواية لوجدنا عشرات المعارف والفنون الموظفة. لعلها الرواية المعرفية التي يؤمن بها برهان شاوي وصرّح بها على لسان أحد أبطاله. «إنها الرواية المعرفية التي لا تعتمد على قصة الأحداث وإنما على ذلك التراكم المعرفي الذي يمنح القارئ ليس المتعة الأدبية فحسب وإنما المتعة الفكرية كذلك» ص117.

التجريب في رواية متاهة آدم

في كل فصل من فصول رواية «متاهة آدم» إلا عددًا قليلًا قد لا يتجاوز الفصلين، نلاحظ نوعين من الخطوط المستعملة في الكتابة. خط عادي وخط سميك. الخط العادي يتعلق بالسرد والحوار وسير الأحداث. الخط السميك يحتل حجم فقرة من النص أو نصف صفحة ولا يتعدى الصفحتين إذا طال وأحيانًا هو جملة بسيطة أو مركبة. وهو كالهوامش التي ترتبط بمتن الفصل وتتعلق بالجانب الفني منه. مرة تُفهم على أنها آراء تهم القارئ وفي أغلب الأحيان هي ردود فعل ثلاث شخصيات فاعلة على سير الأحداث وقد تكون ردود فعل الكاتب آدم البغدادي نفسه على طريقة توجيه النص من قبل آدم التائه، أو هي نقد ذاتي يقوم به آدم التائه نحو آراء أخذ بها أو أتتها حواء المؤمن، وأحيانًا هي ردة فعلها تجاه أحد الكاتبين. تسأل أسئلة منطقية أو تسأل أسئلة محتار حول بعض الشخصيات التي قد ترى نفسها فيها.
– يجب تعديل هذا الفصل بأن يتم التوسع في وصف مشاعر حواء المؤمن الجنسية. ص24.
– هذا الفصل فيه الكثير من الأحداث المهمة. ربمّا يُفضل أن يتم الكشف عن علاقة الأب بحواء المؤمن زوجة ابنه. ص32.
– بعد قراءة هذا الفصل شعرت بالتوتر الجنسي، هل هذا الإحساس سيراود كل من يقرأ هذا الفصل؟
– هذا الفصل يمكن بحد ذاته أن يكون رواية لكني أعرف بأن الدكتور آدم التائه سيمر بتحولات كبيرة في الفصول اللاحقة. ص75.
– هل أنّ آدم المطرود هو أنا أم شخصية أخرى حقًا؟ ص 98.
– لم يدون آدم البغدادي ملاحظة وإنما اكتفى بملاحظات حواء المؤمن . ص117.
– انتبه آدم البغدادي إلى أن تضمين الرواية نصوصًا شعرية هي تقنية قديمة. ص130.
– لم تفهم حواء المؤمن لماذا ترك زوجها قصة المهندسة التركية حواء كوناي حتى النهاية. كانت متلهفى لسماعها. ص176.
– أحس آدم البغدادي بالحزن على مصائر أبطال آدم التائه وأعجب لتوقفه عند كل هذا الكم من التفاصيل..ص255.
– لا أدري كيف سأمضي بهذه الشخصيات نحو مصيرها الروائي فأمامي نهايات متعددة للدكتور آدم التائه وزوجته حواء المؤمن. ص296.
– أحس أنني أتدخل أكثر من اللازم في تقييد وتحديد حركة الشخصيات في هذا الفصل وهذا ينقص من الحرية الإبداعية وحرية الشخصية الروائية. ص312.

خـاتمــة

ألاحظُ في الختام أن هذه الرواية هي رواية قصة الكتابة وأن موقف القارئ المغيب عند نهاية كل فصل اغتصبه منه الكاتب آدم البغدادي أو آدم التائه اللذان هما واحد.
وأنه في هذه الرواية لم يُكتفَ بالحديث عن الشخصيات وبتصوير دواخلها أو مواقفها وإنما تحولت إلى سلطة نقدية بل ومساهمة في كتابة هذا النص الروائي. وهذا شيء جديد لا أعتقد أنني قرأته في عمل روائي آخر يحسب لبرهان شاوي وحده.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى