إبداع

محنة المعري

العزلة والانطوائية التي عاشها كانت تؤرقه وتنغص عليه حياته

ابراهيم الاعاجيبي
Latest posts by ابراهيم الاعاجيبي (see all)

يقول فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري: أراني في الثلاثةِ من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيث لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكونِ النفس في الجسم الخبيثِ.

إن المعري عاش غربته في ثلاث سجون، سجنٌ فرضته الطبيعة عليه فرضًا وسجنين فرضها على نفسه فرضًا، هذه النفس لم تكن كباقي النفوس طيعة، بل كانت تؤرق صاحبها وتعبث به أيما عبث، فهي عبثت وتريضت بما أجبرها عليه.

كان لا ينفك يقسو عليها، هذه الغربة الموحشة لم تكن انطوائية بحتة ولم تكن مطلقة حرة، بل إنها تأخذ هذا الجانب تارة وذلك الجانب تارة أخرى، تنقل في دور العلم وقصدها حتى وإن كانت بعيدة نائية ولم تمنعه آفته عن الوصول إلى مدارج الرقي والنبوغ الأدبي الذي وصل إليه.

فلسفة المعري القاسية

قد يُشكل البعض عليه هذه القساوة والحرب التي شنها على نفسه ولكنه عليمٌ بها وبرياضتها لأنه روضها رياضة اقتنع بها، كان الدرس المتنفس الروحي ليطلق به نفسه قليلًا لتحلق في مدار البحث وتخوض الجدال في نظرية فلسفية جدلية.

كانوا يأخذون عنه هذه الفلسفة القاسية التي يعذب المرء بها ذاته كأنه يجلدها ويعاقبها، فهو لم ينسَ آفته وبقى يذكرها مصبحًا وممسيًا حتى بقيت تلازمه ذكراها في حلّه وترحاله.

يذكر أنه ذات يومٍ تناول الدبس في بيته ثم مضى إلى الدرس، ولما ألقى محاضرته سأله التلاميذ أأكلت دبسًا؟ عندها وضع يده على صدره فتحسس الدبس عالقًا على ثيابه، هناك قرر أن يحرم على نفسه الدبس طوال حياته.

وثم حادثةٌ أخرى إذ يرى أن تلامذته تذاكروا جودة بطيخ حلب وحلاوته؛ فطلب من خادمه أن يأتيه بالبطيخ، ولما أتى بالبطيخ يبدو أنه لم يضعه في المكان الذي تعود أبو العلاء أن يجد الطعام، فلم يبادر أبو العلاء ليسأله وبقي البطيخ حتى فسِد دون أن يأكل منه.

هذه الحوادث هي التي فرضت على أبي العلاء أن يقسو على نفسه حتى هذه الدرجة من القساوة، هذه العزلة والانطوائية التي عاشها كانت تؤرقه وتنغص عليه حياته لكنه لم يقتنع أن يكون موضع شفقة بين الناس وهو الأبيّ، بقي غريبًا حتى على نفسهِ وأسير سجونه الثلاثة.

نبوغ أبي العلاء 

إن حياته مليئة بالمواقف والطرائف ولكن شخصيته كانت أقوى وأحنك من هذه المواقف لذا لم تنل من هذه المواقف فتضحك الناس أو تثير شفقتهم أو استهزاءهم به، فهو لم يشكُ لأحدٍ همومه بل عمد إلى الدنيا يبثها تلك الهموم الثقال التي صحبته منذ ولادته حتى رافقته ليوم مماته، فخاطب الدنيا ذات يوم قائلًا: أخوكِ معذبٌ يا أم دفرٍ أظلّتهُ الخطوبُ وأرهقتهُ.

هذه الشكوى كانت صادقة فيما يبدو لأنه الشاعر عمد إلى التفريغ عن نفسه، فقد ضاق بسجونه ويودُ الخلاص والعيش بطلاقة ولكن أنّى لهُ ذلك! فقد نبغ أبو العلاء ووصل إلى ما عجز عنه الكثيرون.

تارة يكون عذاب النفس لصاحبها أشد من عذاب القانون والدين والعرف لها، وأبو العلاء قد أضنى على نفسه بهذه السجون الثلاثة التي بقي يتراوح فيما بينهما حتى أدركه الموت وهو بإحداهن يعيش.

إن معرفة سيرته تلهم أولئك الذي يريدون أن تكون لهم شخصية قوية الملامح والإرادة، طموحة إلى أسمى الغايات التي تتمناها النفس وترنو إليها، فهو بحق خلّد نفسه كإحدى أيقونات العرب وبقيت سيرته وتراثه يمثل مادةً خصبة للدارسين والباحثين عن شؤونه وأحواله وأحوال عصره وأدبه وفلسفته الخاصة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى