
- حصار من نوع خاص - 6 ديسمبر، 2022
- «روزالين».. ولا زال البحث جاريًا! - 22 يناير، 2021
- صبوحة.. نغم سكن قلبي - 23 ديسمبر، 2020
في مقهى الوطن في المهجر اجتمعنا ذات مساء، وتبادلنا تلك الأمسية أطراف الحديث ككل مرة، وعرج حديثنا ونقاشنا وجدالنا وجدلنا أيضًا على أمور كثيرة، والقليل منها كان مهمًا تلك الأمسية ككل أماسي شتاتنا، ووقفنا فيها على الوطن و الانتماء والعشق،،
وفي أمسية الانتماء والعشق تلك، اتهم بعضنا بعضًا بأن هرمون مواطنته ناقص، وأن هؤلاء البعض يعانون نقصًا حادًا في هرمون المواطنة وفقرًا في انتماءهم الوطني، بين قوسين،، وكنت طرفًا متهمًا ومن مجموعة بين قوسين،، وكانت التهمة مهذبة وبصيغة الجمع، لا تبقي أو لا تستثني أحدًا، الكل في بوتقة واحدة وفي قفص الاتهام،، وبصيغة التذاكي طبعًا، وكنا نعرف المعنيون والمتهمون، فالمعنيون يرقصون دومًا دون أن يُشار إليهم، وبينما يعتقد المعنيون نفي التهمة عنهم، يثبتونها على أنفسهم ويقعون في فخ المصيدة.
طرح بسيط لم يكن يحتاج إلى كل ذلك التعقيد والشرح والتحليل والغوص، ربما كان يبدو ذلك للبعض وربما يراه البعض تافهًا وحقيرًا لا يستحق الشرح،، بينما للبعض يستحق الوقفة والتأمل.
علامات استفهام حول الانتماء
المشكلة تكمن في انتمائنا إلى الوطن، هناك علامة استفهام كبيرة حول انتمائنا له؛؛؛ هكذا جاء الطرح مقتضبًا وسريعًا في مظهره طبعًا.. وعمومًا كان ذلك اتهام. و«فول استوب» توقف ونقطة.
ما دام الاتهام بصيغة الجمع وشامل، فهو موجّه إلى المواطنين.. كل المواطنين رسميًا، وأحالنا ذلك الاتهام إلى تساؤل، ومن حقنا أن نتساءل كما يحق لهم طرح رؤيتهم عنا؛ إذا كانت مشكلتنا في الانتماء إلى الوطن، وماذا عن انتمائه هو لنا؟؟
وإذا ما حاولنا تجاوز ذلك، وانتماءه هو لنا،، فإلي أي وطن سننتمي؟؟ هل سننتمي منه إلى العفوي أم إلى الرسمي؟؟
إلى الأصلي منه أم إلى الفصلي؟؟
إلى الروح أم إلى الجسد؟؟
إلى مهبط رأسنا أم مهبط قدمنا؟ إلى موطن روحنا أم إلى مسكن روحنا؟ إلى ذكرانا أم إلى ذاكرتنا؟ إلى واقعنا أم إلى حلمنا؟ إلى طموحنا أم إلى أمنيتنا؟ أم أم ، وإلى وإلى وألف أم وألف إلى…؟
هل ننتمي منه إلى وطن لفظنا خارجًا وأُغرقنا في البحار وقُتلنا عطشا في الصحاري، ورُمي بجثثنا خارجه،، ووُهبت لحومنا للأسماك والحيوانات البرية المفترسة، وهل ننتمي إلى وطن يعيش فيه من أخطأهم الموت والعقاب تائهين مشتتين، لا لون لهم ولا طعم ولا رائحة ولا إحساس لهم، وهل ننتمي إلى وطن قُطعت كل أخباره، وفُصلت كل خطوطه عنّا منذ زمن بعيد وطويل، ولم نعُد نعرفه ولا يستطيع هو أن يتعرف علينا؟؟
أم.. هل ننتمي منه إلى وطن يذكّرنا يوميًا بأنه لا يستطيع أن يقبل سوى ببعضنا وأن يقبل بنصفنا ونصف حقوقنا ونصف هويتنا ونصف مواطنتنا، وطن لا قيمة ولا اعتبار فيه لشهادة ميلادنا، ما لم نكن نمتلك فيه قبيلة تمتلك شهادة ميلاد،، وطن يقول ما عليك سوى أن تقدم شهادة ميلاد قبيلتك وكُن بلا شهادة وبلا هويّة وتعال من أي مكان ومن أي دولة مساء السبت، واستلم الوطن صباح الأحد،،
وطن يضع سقفًا للأحلام
وكيف نستطيع الانتماء وكيف يكون شكلها إلى وطن وضع لأحلامنا سقفًا، وكيف ننتمي وكيف سيكون شكل انتمائنا إلى وطن ينعتنا باسم مميز يشبه وشمًا، لنُعرَف به، ليتم من خلاله إقصاءنا وهضم حقوقنا، ووطن ينعتنا دومًا بالشماليين على غِرار نميريي الجاهلية،، وطن لسان حاله يقول:
فغض الطرف إنك من نمير … فلا كعبًا بلغت ولا كلاب
وطن لا يحتوي رأسك ويرفضه جملةً وتفصيلا، ووطن آخر لا يسمح لك أن ترفع رأسك فيه،، لا شك أن الوطن بطرقه تلك يجبرنا أن نحرقه ونحترق معه، وننحره وننتحر،، فأي وطن هو وطننا، وأي منهما يستحق منا أن نلعنه أولًا؟ أن نرجمه أولًا؟ وأن ندفنه أولًا؟
ونقول عنه ألا أن لعنة الله على الأوطان، مادام يصر الأول على إذلالنا،، والثاني على عبوديتنا؟ ..
*****
وبعضنا قال تلك الأمسية: وما ذنب الوطن في كل ما حصل وما يحصل فيه من أمور، من شدٍّ وجذب، من مدٍّ وجزر، من حقرةٍ واحتقار، من جرائم وحروب ومظالم ومعاناة، هل كان الوطن طرفًا في الحروب أم كان ميدانًا لها؟
هل كان الوطن منتجًا ومخرجًا وممثلًا وكل فاعل في تلك الرواية، أم كان مسرحًا لها؟
هل يُعقل أن يُلعن الوطن، أن يُدفن الوطن ويُجرَّم الوطن،، وهل يُعقل أن يكون ذنبه ذنب ما أنتجه أبناؤه واقترفت أياديهم من إثم، وهم يصرون، إذلال بعضهم البعض، واستعباد بعضهم البعض..
وهل كان علينا أن نقطع صلتنا الروحية والجسدية بكليهما وكل وطن وأي وطن؟؟
أم كان علينا أن نصل كليهما وكل وأي وطن مهما كان السبب ومهما بلغت الأسباب ونغفر لهم، ونستفغر الله؟؟
****
سؤال عن عشق الوطن
والبعض في تلك الأمسية قال: لماذا لا يسألنا أحد عن حكاية عشقنا للوطن ولما لا يسألون لماذا نتغنى دومًا بهوانا للوطن ولماذ نسوق دائمًا فقره غنى، ونصور ألمه لذة،، ونعشقه رغمًا عن كل شيء حتى،،
لماذا لم يسألون حكاية هذا العشق؟ لماذا نعشق الأوطان؟ وإن كان مظلومًا و ظالمًا؟ وإن كان مغبرًا وصورته كالحة، وإن كان شحيح الماء والكلأ، وإن كان صحراء ذو صيف حار هالك، وإن كان أدغال غابية تقطنه كل الحيونات المفترسة، وإن كان الوطن شتاءً ذا صقيع وثلوج طوال العام؟
*****
في تلك الأمسية ، البعض كان ممتلئ بالوطن ومغمور بعشقه حد الثمالة،، وكان يقول هذا البعض في تلك الأمسية:
أو تدرون أنه، عندما يتعلق الأمر والكلام بوطننا وبمن نهوى ونعشق، نتغير تمامًا ونذوب ونرشح عرقًا في الصقيع والأجواء الباردة، ودومًا نتكور وننكمش بردًا في قلب المناطق الاستوائية وفي عز الصيف، ولأجل من نعشقها نحارب العالم ونقاتل الدنيا ومن فيها،، نختلف مع الجميع أيضا لأجلها، وأول من نختلف معهم هو أنفسنا إذا دعت الضرورة، ونختلف نحن وبؤسنا،،
نختلف ولوننا الباهت،، وطابعنا الكلاسيكي الهادئ،، فنحن دومًا نكون معها أغنياء بفقرنا، أقوياء بضعفنا، براكين بسكوننا،، مطربين رغم بحة وحشرجة أصواتنا وضياعها،، وشعراء رغم عدم امتلاكنا لأدوات الشعر، وجهلاء بلغته وبحوره،، نتمرد دومًا على الأعراف والتقاليد عندما تزورنا في الصباح مع نوارس البحر وفي المساء على ضوء القمر وصوت هدير أمواج البحر.
حنين وذكريات الوطن
ونزور وبذاكرتنا دائمًا شواطئها وجزرها زوارق وسفن صيدها، أماكنها السياحية المقدسة، أضرحتها، مساجدها وقلاعها، ونجلس في باحة أحواش منازلنا الواسعة سعة قلوب الناس، هناك ويلفنا دخان كثيف ينبعث من مبخرة اللبان الندي ويعطر ذلك الدخان مكان ارتشافنا لقهوتنا الصباحية هناك دومًا، ونأكل كذلك حبات الفشار حبة حبة كأكل العنب حبة حبة، وندعو لأولياء الله الصالحين وللشيخ عيدروس والشبخ الشاذلي والشيخ عبد القادر الجيلاني ونحن نحتسي فناجين قهوتنا واحدًا تلو الآخر هناك.
ويعترينا شعور الفرح ونشوته عندما تتسلل محبوبتنا إلينا في عتمة الليل، في حر الشمس، في جو عاصف هائج ومضطرب وآخر ماطر، وترفض الوصايا والإملاءات وتخترق القانون والمألوف لأجلنا لنكون معًا ونختلي ببعضنا البعض، وتفرد لنا ذراعيها لنلتحم بها، ونحضنها ونقبلها،، بحضورها نستحضر روحًا أخرى، وذاكرة مربعة وخيال خرافي أسطوري، وبرفقتها نطير فرحًا ونحلّق عاليًا في السماء وننظر إلى العالم من ذلك المكان العلي مع السحاب والغيوم وهناك نعقد صفقة لأجلها مع الغيوم والمطر، وصفقة أخرى مع البحر وأحيائه، مع الحجر والشجر ومن ذلك المكان العلي ندعو الله العلي القدير أن يحميها،،،
وعد بالعودة
عاهدناها والرحمن ذات يوم أن نعود إليها ونستعيدها، وحلفنا ذلك اليوم أنه سيختلف كل شيء من حولنا بحضرتها وقدومنا،، الكلام والصمت والهمس والعزف والأداء،، كل شيء سيختلف، سيتجدد سيتلون،، الطباع اللون والمذاق، وستتغير كل هذه الأشياء والمفاهيم،،
سنحيك لها فستان عُرس من خيوط الحرير، تلبسه صباح العيد، ويزيد بهاءها بهاءً، وسنطرز ثوبها وثوب لقائنا من أثير شوقنا، ومن نغمات عشقنا،، وعندما نلبسها ذلك الثوب سنغرق وجناتها بعطر المسك الخالد ونهديها بخور بونتلاند بخور من بلاد الطيب والعود والبخور،، وسنهديها جنانًا ورود،، وشذى زهر،، ورحيق الياسمين،، ونهديها موروثها الطبيعي ورقصتي اللالي lale و الكيكي keke،، واغنية الملابو Malabo وفلكولور الصدع Sada’a ،، وفي الأخير سنهديها رواية عشق خالدة..
وبعد كل ذلك و هذا، نلوم انفسنا ونعاتبها على تقصيرنا تجاهها، وخذلاننا لها،، فلم يكن كافيًا، لا معبرًا كل ذلك عن دورها وكينونتها، ماهيتها وما تزخر بها من سحر،، فهي لوحة جمال غير عادية غير مألوفة، هي لوحة نقاء سريرة تبرق، وحياء محبب، وكبرياء محمود، هي واحة علم وتضحيات وصمود، هي واحة، هي لوحة، هي كوكب آخر نفتقده،،
وفي النهاية هي عالم من الأسرار وبحيرات من السحر، وقادم من الخيال والماورائيات..