إبداع

ميلاد «الدقن» بين النداهة والإرهاب

الفنان شخصية يعيش في المجتمع باستمرار حتى بعد أن يدخل جسمه القبر

د. رمضان الحضري
Latest posts by د. رمضان الحضري (see all)

(ألوو يا أمم) (على ودنه) (أحلى من الشرف مافيش) (يا آه يا آه)، يصيبني البهوت حينما أتحدث عن الفن المصري وأنا أقف في المنتصف تمامًا بين السنابل والمزابل وبين الشموس والظلمات، وبين الإنسان وغيره من المخلوقات.

 فحينما تمر ذكرى ميلاد فنان العروبة / توفيق الدقن _ رحمه الله رحمة واسعة _ والذي ولد في الثالث من مايو 1923 م، في إحدى قرى محافظة المنوفية العظيمة وفي ظروف الاحتلال الإنجليزي، وسيطرة المستعمر على كل شيء في مصر.

ومن يسيطر على التعليم في أي بلد فإنما هو مسيطر على كل شيء، فما الإنسان سوى عقل يدير مجموعة من الخلايا تقل عن عدد الخلايا في معظم الحيوانات البرية والبحرية.

توفيق الدقن فنان العروبة

وفي شظف العيش وصعوبة الحياة يحصل توفيق الدقن على شهادة المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1951م وكان المعهد حينها تابعًا لوزارة المعارف، حيث كان وزير المعارف هو عميد الأدب العربي طه حسين الذي وقع على شهادة الفنان توفيق الدقن، وتحدث إلى الخريجين حديثًا مهمًا يبين أهمية الفنون بالنسبة لكل المجتمعات، بصفتها أكبر مؤثر في بناء الشخصية المجتمعية.

 وكان للفنان أساتذته، حيث إن الفنون كالعلوم بدون أساتذة يصبح الفن إرهابًا، فالسينما والمسرح والتلفزيون وشبكة التواصل الاجتماعي هؤلاء هم أكبر الأساتذة في عصرنا الحالي، ويتخطى دورهم دور المدرسة والأسرة وكل مفكري الاجتماع والتربية والسياسة والإعلام، حيث يوجه التلفزيون أطفالنا أكثر من توجيه الآباء.

الفن والأخلاق

والكثرة هنا كثرة الأثر وليست كثرة الفعل، وحينما نقدم مسلسلًا أو فيلمًا لأطفالنا وصبياننا وشبابنا فإننا نقدم لهم مقترحات جديدة للحياة.

 ومن يظن أن الفن لا يؤثر في الأخلاق فلماذا نصنعه ؟، فإذا أمسك الممثل بممثل آخر وقيده فقد أعطى فكرة للصبيان والشباب عن ترك دور الحكومة والاعتماد على الدور الشخصي.

فبعض المسلسلات التي نراها تعلن أنه لا وجود للحكومة في حياتنا، بل اضرب من ضربك واشتم من شتمك واخطف أبناء من أضر بك، وخذ حقك بيدك فإن المجتمع ليس به حكومة ترد الحقوق ، وليس به قانون يمكن الاعتماد عليه.

الفن المتطرف

 وبالتالي فإن أساسيات الإرهاب في مجتمعنا ليس الفكر المتطرف وليس الكتب المتطرفة ولكنه الفن المتطرف.

وقبل محاكمة الإرهابيين على أرض الواقع علينا أن نحاكم من قدم لهم هذه الأفكار عبر الشاشات، والمسلسلات التي نراها في هذا الشهر الكريم في معظمها تبني الشخصية الإرهابية التي تعتمد القتل والسلب والنهب والإجرام وتنفي القانون والمحاكم والشرطة وغيرها من البناء الفوقي للمجتمع.

أقول هذا وانا أتحدث عن فنان لن يتكرر في فننا العربي، حيث إن هناك شخصيات فنية لا يمكن تكرارها مرة أخرى، فتوفيق الدقن ومحمود المليجي وفريد شوقي وأحمد زكي وفاتن حمامة وماجدة شخصيات لا يمكن تكرارها مثل عبد الوهاب وأم كلثوم ومحمد نوح وبليغ حمدي والسنباطي وعبدالحليم حافظ وفيروز.

فحينما كان هؤلاء الفنانون يقدمون فيلمًا ينتظره مهرجان كان السينمائي، وتنتظره شعوب أوروبا قبل الشعوب العربية أما حينما تقدم الفيل البمبي وعبده موتة وفيلم كده كويس، وفيلم البطيخة طلعت قرعة، وإذا أردت أن تقدم هذا حتى في مهرجان عزبة الجحش فلن يسمحوا لنا بالدخول من باب عزبة الجحش.

السينما المصرية في العالم

لأن هؤلاء لا يعرفون أن السينما المصرية هي السينما الثانية بعد فرنسا مباشرة، وأن أكاديمية الفنون المصرية في روما هي التي أنشئت معهد السينما في إيطاليا، وأن المصور الشاب راغب عياد المصور المصري الذي كان يعيش في روما هو أول من طلب إقامة أكاديمية للسينما في العالم.

وأنشئت أول أكاديمية مصرية للفنون في روما قبل الأكاديمية البريطانية بعقدين من الزمان، مع العلم أن بريطانيا هي الدولة الاستعمارية التي كانت تحتل مصر في هذا الوقت، لكن علماء مصر وعظماء مصر لايقهرهم مستعمر، بل تفوقوا على المستعمر، فكان طه حسين من أعظم كتاب العالم في وقت الاستعمار.

وكان عبدالوهاب من أهم موسيقيي العالم، وكان توفيق الحكيم من أهم كتاب العالم، وكان شوقي باشا أمير شعراء العالم، وتحت نير الاستعمار كان العالم والفنان المصري عظيما لدرجة أنه يقهر المستعمر بعلمه وفكره.

الرواية السينمائية 

حينما تصبح الرواية السينمائية هذه الأيام بديلًا عن روايات نجيب محفوظ ويوسف جوهر وأمين يوسف غراب والعظيم يوسف إدريس فلابد أن نعلن أننا أصابنا الفصام، وأبسط التعريفات لمرض الفصام العقلي هو اضطراب عقلي شديد يفسر فيه الأشخاص الواقع بشكل غير طبيعي.

وقد ينتج عن الإصابة بالانفصام في الشخصية مجموعة من الهلوسات والأوهام والاضطراب البالغ في التفكير والسلوك وهو ما يعرقل أداء الوظائف اليومية، ويمكن أن يسبب الإعاقة. يحتاج المصابون بالفُصام إلى علاج مدى الحياة.

توفيق الدقن في السينما

ملاحظة / أدعو القارئ الحبيب أن يشاهد فيلم النداهة عن قصة يوسف إدريس وإخراج حسين كمال عام 1975 م، ليعرف كيف كان الكاتب وكيف كان المخرج وكيف كان المجتمع؟ 

وجدير بالذكر أن ماضي توفيق الدقن الصديق والفنان والموسيقار حينما سئل عن أدوار والده في السينما
المصرية أو في المسرح المصري قال : لايوجد هناك دور لوالدي ممكن أن أستحي منه أو أخجل من مشاهدته أو من ذكره.

الفنان شخصية تعيش في المجتمع

لأن الفنان ليس دورا تمثيليًا أو تشخيصيًا يؤدي ليتكسب منه الفنان ويفاخر الناس بأنه يملك كذا من السيارات أو من الفيلات والدولارات، بل الفنان شخصية يعيش في المجتمع باستمرار، حتى بعد أن يدخل جسمه القبر، تظل أعماله وشخصياته تبني في المجتمع، فللخطأ عقوبة وللإحسان مثوبة، وللنبل رتبة، وهذا ما جعل أرسطو يقول: إن الفن أكثر عدلًا من الواقع.

فقد يهرب المجرم في الواقع ولكنه لايهرب في الفنون وقد يتكسب اللص في الواقع ولكنه يُعاقب في الفنون. 

رحم الله الفنان المصري العظيم توفيق الدقن الذي أهدى حياته كلها لفنه ولوطنه لا لمال ولا لمناصب ، لكنه اكتفى بأنه وجد مكانًا ليدفن فيه بأرض مصر الطاهرة، فترك ميراثًا لأبنائه من حب الناس، وترك كل ميراثه للشعب العربي والمصري محبة ورضا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى