نجيب محفوظ يتذكر… صدمات وصداقات
«إيه الداهية دى؟!».. أول رد فعل للناشر سعيد السحار بعد قراءة «بين القصرين»

تحت عنوان «بين محفوظ والسباعي» كتب المستشار رجائي عطية مقاله المنشور في جريدة «الوطن»، رعاية البراعم الجديدة و الدوائر الحاضنة لها..
وجاء في المقال:
لا يخطئ المتأمل في حياتنا الثقافية والفكرية والأدبية والفنية، وفي حياتنا بعامـة، أنه قد تآكلت واختفت الدوائر «الحاضنة» التي كانت تتلقى وتشمل بالرعاية البراعم الجديدة، أو تتبادل الاهتمام والدعم فيما بين المستويات المتوازية أو المتقاربة حتى إن كانت متنافسة.
فلماذا أجدبت الساحة بعامة من هذه الدوائر الحاضنة، ومنها النقد الأدبي الذي كان دوره هو الداعم الفاعل للمواهب الجديدة، والجالب لالتفات واهتمام الناس، وتخصيب وتلقيح أفكار ورؤية الجدد، وتمكين أقدامهم من الرسوخ في الأرض؟..
أين ذهب الدور الذي كانت تؤديه الجمعيات والجماعات الأدبية والفنية بل والأحزاب السياسية، التي وإن بقيت اسماً، إلاّ أن بوصلتها ومعها دورها قد تاها في الصراعات على الإقطاعيات والمراكز والألقاب والتفاهات؟..
أين ولت الحميمية التى كانت تحفظ جسـوراً بين الكتاب والأدباء والفنانين، ومهما بدا على الساحة من تعارك أو نزال ومقارعات؟
الدوائر الحاضنة للأجيال المتتابعة
هذا الجو الدافئ هو الذي كفل بقاء واستمرار الدور الفاعل لقمم الزمان الفائت، وهو الذي استقبل تباعاً الأجيال المتتابعة ورعاها وخصبها ومكن لها حتى ضربت بجذورها في الأرض، وارتفعت أفنانها إلى السماء.
شدني إلى هذه المعاني «ذكريات» أديبنا الفذ نجيب محفوظ التي سجلهـا الأستاذ جمال الغيطاني تحت عنوان: «نجيب محفوظ يتذكر».. فيها روى «الصدمة» التي أصابته حين استهول المرحوم سعيد السحار حجم الثلاثية وانفلتت منه عبارة: «إيه الداهية دي؟!»..
كانت الثلاثية رواية واحدة بعنوان «بين القصرين».. جعل السحار يقلب صفحاتها الألف قبل أن يقول: «كيف أطبع هذه؟! إن ذلك مستحيل». يسترجع نجيب محفوظ هذه الصدمة ويحكي كيف عاد يومها إلى البيت وهو في منتهى الحزن. يقول لنفسه وقد شارف على الانهيار: «أبعد هذه السنوات من العمل، أبعد هذا الجهد الشاق لا أستطيع نشر أكبر وأعز عمل؟!
مررت بأيام يأس والحكي لنجيب محفوظ، وفي إحدى المرات كنت في نادي القصة، وتحدثت عن روايتي الضخمة التي فشلت في نشرها، وإذا بالمرحوم يوسف السباعي يطلبها مني. أخذها يوسف السباعي كلها، وكانت مخطوطة وحيدة. لم أكن قد نسختها على الآلة الكاتبة. كان من الممكن أن تضيع، لو أن هذه النسخة الوحيدة فُقدت من المرحوم يوسف السباعي لأي سبب لضاعت الثلاثية إلى الأبد!».
يستكمل نجيب محفوظ ذكرياته، فيروي كيف صدرت بعد الثورة مجلة «الرسالة الجديدة»، وكيف أنجز يوسف السباعي وعده، وبدأ نشر فصول «بين القصرين»، فلاقت نجاحاً لفت نظر المرحوم سعيد السحار، فاقترح تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء، ومن هنا جاء عنوان: «قصر الشوق»، و«السكرية».. وأصبحت «بين القصرين» ثلاثية.
صدمة محفوظ
أغنانا نجيب محفوظ عن استقصاء حالته في تلك الأيام، فلم يخف أنه أصيب بصدمة فظيعة هائلة وأوشك على الانهيار، ولكن لست أدري ماذا كان تصوره حين أعطى نسخة أو مخطوطة الرواية الوحيدة إلى المرحوم يوسف السباعي.. إنه روائي ومن جيله، واحتمال المنافسة قائم، بل هي حقيقة مؤكدة، فكيف استطاع نجيب محفوظ أن يغامر، وكيف استطاع يوسف السباعي أن يعاون؟!..
لم يخف نجيب محفوظ على نسخته التي لو ضاعت لضاع العمل كله إلى الأبد، ولا داهن يوسف السباعي أو ناور في وعد أعطاه كان يستطيع السكوت عنه.. لم يمنع تنافس الجيل الواحد من أن يطمئن نجيب محفوظ على روايته، ومن أن يصدق يوسف السباعي في وعده الذي رأت به الرواية سبيلها إلى جمهور المتلقين، وإلى الحياة التي عاشتها ولا تزال تعيشها للآن.
كذلك موقف المرحوم سعيد السحار الذي لم يجد غضاضة في أن يرجع عن تحفظه، وفي أن يبادر بالاتصال لدعوة نجيب محفوظ لنشر العمل، وإخلاص النصيحة إليه بتجزئته إلى أجزاء ثلاثة بعناوين مختلفة.. ربما عزونا موقف السحار إلى حسابات الناشر، سواء في رفضه أو فى دعوته الثانية، ولكن موقف يوسف السباعي موقف مقطر مصفى.. لو لم يكن ليوسف السباعي في باب الإيثار المخلص إلاّ هذا الموقف لكفاه!
هذا الموقف لا يتوازى معه ولا يدانيه نجدة الصديق للصديق بعامة.. قد يكون عادياً أو غير غريب أن يقرض الصديق صديقه أو زميله، أو أن يعينه في شدة، أو أن يعزيه في وفاة، أو يجامله في أفراح، أو يعوده في مرض.. أما موقف يوسف السباعي فموقف يوري بإيثار لافت، لأنه ونجيب محفوظ في حقل الرواية متنافسان، وقد يحسب الصغير أن تقدم وعلو غيره يؤخره، فيضن عليه بالعون والمدد، ولا يستطيع إلاّ أن يكون شحيحاً ضنيناً لا يرى إلاّ ذاته، ويرى في إتاحة الفرصة لمنافسه انتقاصاً من فرصته بل ومن مكانته..
الإيثار والتكافل بين أهل الفكر والفن
هذا الإيثار من المحال أن ينمو هذا النمو ويمضي بهذه العراضة وهذه الروح المصفاة، إلاّ في أرض خصبة وارفة، ساد فيها «التكافل» وتبادل فيها أهل الفكر والفن والأدب سجية «الاحتضان» وتبادل الرعاية والوفاء!
لو كان موقف يوسف السباعي يتيماً فريداً، لقلنا إنه «نشاز» لا يعبر عن إيقاع ولا عن التيار الجاري في ذلك الأوان، ولكن نجيب محفوظ يروي لنا، في مواضع أخرى من ذكرياته، كيف كان يبث مشاعره ويعرض بعض إنتاجه على الكاتب الروائي المرحوم عبد الرحمن الشرقاوى، وكيف عرض عليه سبعة موضوعات كانت لديه يشاوره بشأنها بعد ما توقف فترة بعد الثلاثية.. وكيف أرسل المرحوم مصطفى أمين وبلا تعارف سابق! من يعرض عليه أن يكتب قصتين في الشهر لأخبار اليوم لقاء أربعين جنيهاً كانت شيئاً في أوائل الأربعينات..
حين قرأ مصطفى أمين إحدى روايات محفوظ وكان في بداياته واستشعر موهبته، لم يتردد في القيام بهذه المبادرة.. كنا نرى في أسرة الكتاب بالأهرام وأخبار اليوم قامات عالية.. تباهي بهم كل دار صحفية، وتقدم بكتاباتهم للقراء ما يثري ويشبع، مؤديةً دورها كحاضنة للحياة الثقافية والأدبية والفنية إلى جوار مهامها الإخبارية والسياسية..
دور الجمعيات والمجلات الأدبية
رأينا هذا الزخم في الجمعيات والجماعات الأدبية والفنية التي توارى دورها الآن أو يكاد، وفي المجلات الأدبية والفنية والشهريات المتخصصة التي كانت تصدر بانتظام حافلةً بوجبات متنوعة من القدامى والقامات العالية، ومن المواهب الجديدة..
هذه المجلات توارى معظمها أو تآكل دوره أو قل توزيعه بحكم التضخم وارتفاع أسعار الورق من ناحية، وبحكم المنافسة غير المتكافئة مع مهرجان القراءة الذي إن يسر الكتاب، إلاّ أنه لا تقف وراءه دائرة «حاضنة» تؤدي ولو بعض ما كانت تؤديه الحاضنات في الزمن الفائت.. ومع هذا التواري أو التآكل أو تراجع الدور، تراجع النقد الأدبي وتقلص عدد النقاد الجادين، وكان كلاهما: النقد والناقد «حضانة» هامة ومؤثرة في الحياة الثقافية والأدبية والفنية!
هذا التراجع شمل للأسف حياتنا بعامة في كل مضمار، وأضاع فيما أضاع التواصل بين الأجيال، ويكاد يغلق الأبواب أمام المواهب الجديدة. بل وأمام القامات الراسخة، مما غدا معه التعبير والإسهام بعامة مكابدة حقيقية في أرض تبدو خاوية موحشة كالبلقع أو تكاد!