إبداع
قصيدة العمود.. ماضٍ زاهر وحاضر واعد
الشعر الموزون سطوته كبيرة على النفس واتخذ منه المطربون طريقًا للغناء

Latest posts by عماد الدعمي (see all)
- قراءة في.. «ديوان الحسناوي» - 8 يونيو، 2021
- «من قلبي تولد الحروف».. اقتحام الوجدان - 20 مارس، 2021
- قراءة في ديوان «السمراء ذات الخال بكامل أريجها» - 7 مارس، 2021
الأصل هو عمود الشعر ذلك الشعر الموزون المقفّى والذي امتد تواجده إلى أكثر من خمسة عشر من القرون، ويتميز بإيقاعه القوي المؤثر على المتلقي والذين برزوا فيه شعراء كثيرون لا يزالون خالدين مع مرور الزمن.
وبمرور الأيام ظل هذا الشعر هو المسيطر الأوحد لمئات السنين، وما زالت سطوته كبيرة جدًا على النفس البشرية خاصة حينما اتخذ منه المطربون والمطربات طريقًا للغناء فعززوه في نفوس الكثيرين.
ومع تطور الزمن والحداثة وفي أواسط القرن المنصرم ظهرت قصيدة التفعيلة وكان من أهم روادها نازك الملائكة والسيّاب والبياتي وصلاح عبد الصبور … ورغم أن هناك محاولات كانت قد سبقت هؤلاء وهو نظام الأشطر وتباعد القوافي وهي محاولة للهروب من القافية التي تعد الأصعب في الشعر العربي والتي ترهق الشاعر كثيرًا ولنا عدة شواهد في ذلك.
تأثير الشعر الموزون على الساحة الأدبية
وهذا النوع من الشعر كان له تأثير كبير على الساحة الأدبية أيضًا وقد غنى الكثيرون منه فأمسى ذائعًا للصيت كونه غير بعض القوانين والأنظمة الشعرية، ولكنه في الآونة الأخيرة بدأ يقل إلى درجة كبيرة في وقتنا الحاضر، في حين ظلت قصيدة عمود الشعر لها السيادة ولم تزل، وبعدها جاءت قصيدة النثر التي ليس من شروطها الوزن والقافية فكانت المساحات أوسع فيها وكتبها الكثيرون خاصة جيل السبعين والثمانين من هذا القرن والأجيال التي تواكب الحياة في الوقت الحاضر، وبعد تحليلنا لأكثر من 60 نصًا شعريًا بتعدد عناوين القصيدة ومن رؤيتنا وجدنا عدة نقاط عمدنا أن نوثقها في هذا المقال ومنها:
أن شعر العمود له تأثير وإيقاع كبير وسطوة قوية كون حروفه متناسقة حسب الجرس الموسيقي فإذا ذهبت عنه هذه الصفة أصبح تركيبًا لا غير، ويحتاج شعر العمود إلى أذن موسيقية واعية مع وجوب قوة النفس الشعري والقدرة على الترجل.
ومن يكتب قصيدة العمود يجب أن يكون متقنًا للغة وعلومها كالنحو والتصريف والعروض والبيان والبديع وأن يكون ملمًا بعلم القافية وأن يكون ذا حافظة شعرية قوية، وأن يدع القصيدة تأتي لوحدها ولو حتى في ولادتها أي من غير تكلُّف، وبهذا يكون صادق الإحساس تنساب إليه المفردات لوحدها وهو لا يتكلف في إيجادها، وأن لا يتقوقع في بحر أو بحرين من بحور الشعر حتى تتسع المساحات أمامه وتكون أذنه الموسيقية واسعة المدى، وأن يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن القصيدة تحاكي الجميع وليس لفئة محددة حتى يكون تأثيرها شموليًا واسعًا يطرق أغلب متلقي الشعر أو متذوقيه ومتابعيه.
الشعر العمودي يواكب العصر
وبهذا يجب أن يكون حذرًا من الضبابية والألفاظ الصعبة وخاصة في الشعر العمودي، وأن يكون ملمًا بالتاريخ والأحداث والوقائع وعلوم الأدب كافة، وأن يكون مواكبًا لعصره تتناسب مفرداته مع الزمن الذي يعيشه وأن يحاكي في قصائده الواقع وأن يجسد المعاني التي تحيط بيئته وما يدور حوله حتى يكون شعره مؤثرًا بالغ الأثر، وأن لا تخلو قصائده من بعض المعاني التي تبعث التأويل لدى المتلقي.
وبما أن الشعر فطرة وسليقة وموهبة لذا توجب الحفاظ عليها من خلال التدريب والمران وهذه النقطة تخص جميع أنواع الشعر، لكنها تحتاج المزيد من العناء في قصيدة العمود، كما أن الأسلوب له الدور الكبير في بنية القصيدة من حيث الأفكار في محاكاتها ووضوحها وغموضها، وكذلك العواطف من حيث قوتها ونبلها وصدقها، ناهيك عن اللغة الشعرية الصحيحة من حيث صحتها وفصاحتها وسلامتها، وهذه أهم النقاط التي يجب أن تتواجد في شعر العمود.
وإذا ذهبنا إلى شعر التفعيلة الذي يكتب في ثمانية بحور سنجد تباعد القوافي قد أعطى مساحات أوسع للشاعر ليعبر بسهولة أكثر بعيدًا عن عناء القافية، كما ورد في شعر السياب وخاصة قصائده الطويلة كالمومس العمياء وحفار القبور.
ومن رؤيتنا يحتاج هذا النوع من الشعر شعراء بارعين لأن طول المساحات قد يفسد القصيدة إذا ما كان الشاعر بارعًا مجيدًا يستطيع الحفاظ على وحدة الموضوع للقصيدة، ويمكن عد شعر التفعيلة لونًا من السجع الموزون في أكثر حالاته، وتنقصه مقومات الانتظام في التفاعيل والقوافي وتوقيت الأشطر وبهذا يكاد يكون مفككًا وغامضًا في عدة أحيان.
الشعر العمودي يمنح النفس متعة خاصة
ويمكن اعتبار شعراء التفعيلة بأنهم أرادوا التخلص من القافية بل والتخلص من الأعاريض والضروب التي تضفي جمالية خاصة على القصيدة، كما أن الإيقاع الزمني ضعيفًا في هذا النوع الشعري لأن الضربات الشعرية تخف فيه عكس الشعر العمودي الذي تأتي ضرباته بقوة لتمنح النفس لذة ومتعة خاصة.
ومع إننا نعترف بأن هناك شعراء برزوا في هذا الشعر كنازك والسياب ونزار قباني لكننا وإن عدنا سنجد أنهم شعراء عمود بالأصل كما أن أخيلتهم واسعة، تبقى لغة التعبير في شعر التفعيلة ضعيفة عكس شعر العمود وهذه أبرز خصائص شعر التفعيلة.
أما قصيدة النثر فالوقوف عليها يتطلب الكثير من الكلام لاختلاف الرؤى فيها فمنهم من قال أن قصيدة النثر لا يمكن عدها من الشعر، ومنهم قال هي قصيدة لأنها شعور وجداني تدخل ضمن مضمار الوجدان والشعور الذاتي للشاعر، ونحن نرى أن قصيدة النثر صعبة وللغاية لأنها بذاتها تمرد على القوانين والأنظمة التي عرفناها بالشعر العربي الأصيل.
إن قصيدة النثر تحتاج عدة مقومات لنجاحها حتى تصبح مؤثرة على المتلقي، رغم أننا نؤمن بأنها وإن وصلت القمة لا يصل تأثيرها كما في شعر العمود، وأهم المقومات فيها هو عنصر الإيحاء الفاعل الذي يجعل من المتلقي متفاعلًا معها مع زج صور شعرية مكثفة لا تخلو من البلاغة، وأن تكون بقدر المسؤولية التي جاءت بها وكأنها تثبت أنها فعلًا تحررت من الرتابة والنظم والقوانين التي غالبًا ما تحد من إبداع الشاعر، وخاصة عند المبتدئين الذين يكتبون الشعر ويجدون أمامهم عراقيل القافية والوزن.
تأثير القصيدة على المتلقي
ولا بد من ذكر أن وحدة الموضوع في هذه القصيدة بالكاد تكون مبعثرة والحفاظ عليها قد يكون صعبًا، لذا نرى أن أغلب كتابها يميلون للرمزية والضبابية التي تجعل من النص مؤولًا وباعثًا للتفكر والوقوف عليه، وبما أن العلاقة رصينة بين الشاعر ومتلقيه في جميع حالات الشعر لذا توجب أن يكون التأثير قويًا على المتلقي.
وهذا ولَّد لدينا قبول هذه القصيدة خاصة بعد ظهورها في بداية السبعينيات، وقد يكون للحداثة الأثر الفاعل في قبولها ويمكن عدها أنها تخاطب عين القارئ وليس أذنه، كونها تفتقد الجرس الموسيقي الذي يطرق السمع فيهز الوجدان كما أنها مالت للسرد والحكي وابتعدت عن الاختزال، إلا قصيدة الرمز التي تواجد فيها الاختزال.
كما أنها إيحائية دلالية بحد ذاتها لأن أغلب فنون البديع قد لا تنطبق عليها إلا فيما ندر منها ، وقد يطول الحديث بنا في هذا المبحث لكننا وضعنا بعض المفاهيم التي رأيناها من رويتنا الخاصة، كما أننا ندعو جميع شعراء الحداثة أن ينظموا الشعر العمودي فإن استطاعوا فذلك سيسهل عليهم كثيرًا فيما يكتبوه من قصيدة النثر، وفوق كل ذي علم عليم .