
- الكورونا «ليزا» بين الاختلاف وكرسي الاعتراف - 12 يناير، 2021
- هستريا الوهم وهذيان الحلم - 2 يناير، 2021
- الرواية.. عالم الشباب المنشود - 21 أغسطس، 2020
جلس في بهو قصره الفخم ينظر إلى أركانه المرصعة بلوحات باهظة الثمن لفنانين عظماء جمعها من مزادات متعددة في عدة بلدان من العالم زارها وكان يحب أن يقتنيها لا لأنه عاشق للفن، ولكن ليزهو بها بين أصدقائه وصديقاته، أو لنقل محظياته؛ فقد كان يهوى النساء وتعدد العلاقات، كان يرى في كل امرأة شيئًا مختلفًا، لذا كان دومًا يقول:
-
- من البلاهة أن تتزوج، فواحدة لا تعطيك طعم كل النساء.
كان الصمت مطبقًا والقصر خاويًا… تذكر حينما كان يقيم حفلاته وسهراته، ويدعو معارفه وصديقاته، ويستأجر فرقًا فنية لتعزف له كل ألحان الحب والجمال..
هل النساء سلعة؟
كان يفخر حين ينعته الناس بالعربيد، ويرى أن النساء سلعة تُشترى بالمال، هن يأتين سعيًا وراء الهدايا، والعطايا، والهبات، ويعرفون ما المقابل لذلك، الصفقة عادلة «هن وهو» طرفي انتفاع، والعقد لا خلاف عليه.
فكل طرف يعلم كم يدفع لكي يشتري، وكم يطلب لكي يبيع الآن، لم يعد هناك شيء لا حفلات ولا سهرات، بل خوف، وتوقعات، وموت، وحسرات.
لعنة الله عليك أيها الهاتف اللعين! كان رنينك لا ينتهي ولا ينقطع ليلًا ولا نهارًا… الآن لا أحد يفكر إلَّا في نفسه ومصيره، الكل حبيس زنزانة واحدة ظاهرها غرف منازل، وباطنها سجن أجباري، ورغم إنه مفتوح الأبواب لكن تحرسه كائنات لا تُرى تنتظرك لتقتص منك إن فكرت في الهروب منه.
هذا ما حدَّث به نفسه، وقام ينظر لوجهه في مرآة فاخرة تقبع بجوار الباب فوق منضدة على شكل نصف دائرة صغيرة فوقها فازة صغيرة بها زهور بلاستيكية مبهرة الألوان، وزجاجتي عطر من النوع الفاخر، لها درج صغير يحوي بعض أدوات الزينة وأمشاط الشعر، مثبتة على قاعدة خشبية مزخرفة بنحت فنان بارع.
شعره أشعث، ولحيتة طويلة، ووجهه متعب مكدود… لماذا يشعر كلما تحرك بصعوبة في التنفس ربما من الهم والاحباط، أو ربما من القلق وعدم الحركة هذا ما أوهم به نفسه وأقنعها…
عاد متثاقلًا مرة أخرى وارتمى على كرسي الصالون الفاره العريض، وأسند رأسه وأغمض عينيه، وأخد يلتقط أنفاسه.
رأى نفسه يسير في طريق طويل، وكأنه نفق يدخله، بصيص من الضوء يجعلك ترى ما حولك رغم غلبة العتمة عليه، على جانبي النفق أسرَّة بيضاء كأسرَّة المشفى وأشخاص كثيرون يرقدون عليها، لم يكن يتبين ملامحهم، ولكن كلما اقترب من أحدهم يعرفه من ملامحه، وكأنه رآه من قبل.
الخوف بين النوم واليقظة
كان الأنين الخافت وأصوات التأوهات تسمع ما بين لحظة وأخرى، شعر بخوف شديد، وأخذ يعدو نحو نهاية النفق اللعين ليخرج منه في أسرع وقت، ورائحة المطهرات والأدوية تكاد تخنقه، وحين خرج من الطرف الآخر شعر أن روحه عادت إليه، وأخذ يلتقط أنفاسه المتسارعة، وهو يشعر بسعادة الناجي من الهلاك.
كانت غفوة رأى فيها ما رأى، واستيقظ منها على صوت رنين الهاتف…
أخيرًا صحا اللعين من نومه الطويل…
نظر في شاشته ليرى اسم إحدى محظياته الكثيرات:
- ألو! أخيرًا تذكرت أن تسألي عني أيتها الشقية؟
فباغتته دون أن تعير انتباهًا أو تهتم بما قال، وقالت بنبرة فزع واضحة:
- أصيبت (فاديا) بالكورونا، واحتجزوها بالمشفى.
- ماذا تقولين؟ هل أنت متأكدة؟
- طبعًا وأنا خائفة جدًّا، لقد سألوها عن أسماء كل المخالطين لها في الفترة الماضية، وأكيد ستذكر أسماءنا، أنا متوترة جدًّا لو سألني زوجي، ماذا أقول له؟ إنه لم يكن يعلم أي شيء عن ذهابي إليك، وعن حفلاتنا كنت أقول له إنني سأبيت عند أمي، يا ربِ ماذا أفعل؟
لم يرد عليها، بل أغلق الهاتف محدقًا في رعب نحو باب غرفة نومه…
عادت صديقته تطلبه مرة أخرى، لكنه لم يرد عليها، بل ذهب نحو الغرفة كمخدر مسحور، وفتح الباب، ونظر إلى السرير، وتذكر هذه الليلة الملعونة التي قضاها بين أحضانها وارتعد… كان يرتعش كالمحموم ويقول:
- لا شك أن العدوى نالتني، يا للمصيبة ماذا أفعل؟!
كان جبينه يتفصد عرقًا، وقدماه لا تقوى على حمله، وعاوده ضيق التنفس مرة أخرى، لكنه هذه المرة صرخ:
- يا ويلتى، لقد أصبت بالمرض! هذه هي البدايات، كيف لم انتبه؟
كان مذعورًا كمن رأى شيطانًا مريدًا، أو حيوانًا يسعى لافتراسه ويعدو من غرفة لأخرى… تذكَّر حلمه المخيف وهذه الأسرَّة البيضاء، وعليها صديقاته وشركاؤه فى سهراته الماجنة، والتى تحمل رائحة المرض والموت…
- يا ربِ ماذا أفعل؟
الوهم
وضع يده على جبينه فشعر بحرارة غير عادية… أخذ يعدو ليرتشف بعض الماء لشعوره بجفاف في حلقه، لكن الجفاف ظل كما هو…
جرى ليعد كوبًا من عصير الليمون لعله يخفف مما يشعر به، لكنه لم يدرِ له طعمًا…
ألقى الكوب على الأرض، وقفز نحو هاتفه فتح محرك البحث وكتب:
أعراض الكورونا:
- جفاف في الحلق.
- حكة في الحلق.
- ارتفاع درجة الحرارة.
- فقدان الشم والتذوق.
- ضيق التنفس.
- السعال الجاف.
- يا الله! معظم هذه الأعراض بدأت أشعر بها، لا شك أن العدوى قد انتقلت لي يا ليتني لم أقابلها وأبيت معها في هذه الليلة الملعونة…
هذا جزاء ما اقترفت من موبقات، سامحني يا ربِ! إن شُفيت لن أعود لما فعلت سامحني يا الله!
أخذ يبكي بحرقة النادم، ولوعة المستجير، وفزع المقبل على النهاية بعد لحظات تنبه:
- أين سجادة الصلاة؟ أين وضعتها؟
وجرى نحو دولابه باحثًا عن شيء يصلي عليه… لمح في ركن بعيد من مكتبته مصحفًا غطاه التراب، فقفز نحوه، وأزاح عنه التراب، ومسحه بملابسه، واحتضنه وذهب إلى غرفة نومه، وبجوار السرير الذي مارس عليه رذيلته أخذ يصلي ويبكي، ويدعو الله أن يسامحه، ويغفر له، ويعفو عما اقترفه من ذنوب،
بعدها أخذ يقرأ القرآن… لم يدرِ بما حوله حتى غلبه النوم، فنام على الأرض محتضنًا كتاب الله عزَّ وجلَّ، وأفاق على بصيص نور الفجر فقام وصلى، وهو يبكي، ويدعو الله أن يرحمه ويعفو عنه،
وعند الصباح بدأ يشعر بتعبٍ شديدٍ فى صدره، وزاد نفسه ضيقًا فتحامل على نفسه حتى وصل إلى هاتفه وبحث عن رقم أخيه واتصل به:
- تعالَ الآن حالًا! واحضر معك طبيبًا! أنا أشعر بتعبٍ شديدٍ.
- ماذا بك؟
- لا تضيع الوقت! تعالَ بسرعة! معك المفتاح، أليس كذلك؟
- نعم معي.
- إذًا تعالَ بسرعة! أرجوك!
نهاية غير متوقعة
أسرع أخيه بإحضار طبيب، وذهب إلى قصره، وفتح بسرعة الباب ليجد أخيه ملقًى على سجادة الصلاة وعلى صدره القرآن، فأسرع الطبيب ليجري الكشف عليه، بعدها رفع عينيه ونظر إلى أخيه قائلًا:
- البقاء لله! لقد مات!
- ماااات؟!
تلك كانت صرخة أخيه…
وكان تقرير الطبيب:
«سبب الوفاة أزمة قلبية حادة، وهبوط شديد فى الدورة الدموية».
بسم الله الرحمن الرحيم:
[اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)] (الزمر) [قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)] (الجمعة)صدق الله العظيم
من مجموعة: قصة قصيرة حكايات داودية