
- الجندر وإشكالية المساواة - 14 نوفمبر، 2023
- هل النقد أسطوري؟ - 3 أكتوبر، 2023
- جنون «كورونا» - 27 يونيو، 2020
تطورت المناهج النقدية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ويمتد التطور ليشمل التأثير المتبادل واستقبال الآداب الأخرى وطريقة التعامل معها. وقد توسعت هذه الدراسات لتشمل أحقاباً أدبية وليس فقط أفراداً بعينهم، ولتقرأ تماثلات النظرية الأدبية وتبين أسبابها.
فما سبب تقارب ملمح ربط السامي بالجليل عند هايني بملمح ربط السامي بالغريب عند هيغو. وما سبب قيام الدادائية في أوروبا وقيام «الأدب المضاد» في أميركا، وهما من طينة واحدة وفي وقت واحد، مع أنه لا صلات بينهما؟ وأحياناً يجري التساؤل عن سبب اختلاف أثرين أدبيين كتبا في فترة زمنية واحدة من منظور واقعي واحد، كالحرب مثلاً.
التماثل والتباين:
ازدادت الدراسات المقارنة تخصصاً، فلم تقف عند حدود التماثل والتباين أو التأثر والتأثير المتبادل، أو الاستقبال وطريقته في التفاعل مع الآداب الوافدة وحسب، بل أمعنت في البحث عن «مسيرة الأدب الطويلة» التي تستغرق آلاف السنين. ومن هذه الدراسات تلك التي أشرف عليها آرثر هاتو حول دراسة جنس أدبي معين فقط، عبر حقبة زمنية واسعة. الجنس الأدبي الذي أشرف عليه هاتو كان بعنوان «لقاء العشاق وافتراقهم عند الفجر في الشعر» (براور «الدراسات الأدبية المقارنة» منشورات وزارة الثقافة بدمشق 1986 ص81).
وقد جمعت الأشعار التي تندرج تحت هذا الموضوع، منذ أقدم شاعر بدائي وحتى عصر شكسبير، من أصقاع وعروق مختلفة كل الاختلاف، كما يقولون، درست هذه الأشعار دراسة مقارنة انتهت إلى نتيجة مذهلة وهي وجود تشابه كبير فيما بينها. إنه تشابه بلغ حد التشابه بين قصيدتين في موضوع واحد كتبهما شاعر واحد.
التشابه بين القديم والحديث
وعندما اكتشفت ألواح أوغاريت في الشاطئ السوري عثر على قصائد يتساوى فيها أقدم شاعر أوغاريتي مع أحدث شاعر سوري (طبعاً إذا كان الموضوع واحداً). وفي بلاد الرافدين لوحظ أن عبثية كامو ويونسكو وسواهما، لا تزيد عن عبثية بعض النصوص التي عرجت عليها الألواح السومرية. وإن سفر «الجامعة» ليس أكثر من توسيع لما جاء في ملحمة كلكاميش، كلمحة عجلى وعابرة حول هذا العمر الذي يتبخر ويتبدل من غيران يترك أثراً يذكر بعده.
وسواء عزونا هذا التماثل الذي يكاد يقع فيما يشبه التكرار أحياناً، إلى العامل الاجتماعي أو إلى العامل النفسي، أو حتى إلى المزاج والطباع الذاتية المتشابهة، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل «النظام الأدبي» الذي انتجته المخيلة البشرية.
النظام الأدبي الراسخ على مر العصور
إن هذه النصوص لم تختر من مجتمعات أو نفوس أو أمزجة متقاربة بالمعنى السطحي الذي يجعلنا نقول أن شاعرين مختلفين بالمزاج هما مختلفان حتماً في الموضوع الشعري الواحد. إن الانطوائي يختلف عن الانبساطي اختلافاً تعكسه النصوص هنا وهناك، ولكنهما لا يختلفان إلى حد أن الأول (وليكن بدائياً) يشبه الوجه الجميل بالقمر، بينما الثاني (وليكن معاصرنا من القرن العشرين حيث ظهر القمر على حقيقته) يشبه الوجه القبيح بالقمر.
فمهما حاولنا اللجوء إلى تفسير التشابه بالوضع الاجتماعي المتماثل أو النفسي أو المزاجي، فإن ذلك لا يعفينا من الإقرار بوجود «نظام أدبي» وطيد وراسخ، بل ونقول أنه نظام صارم، منذ القديم القديم.
قد يفسر الوضع الاجتماعي أو الجغرافي أو الظروف العامة أوجه الاختلاف أكثر مما يفسر أوجه الائتلاف، كأن نلجأ إلى هذه الظروف في تفسير ظهور المسرحية عند اليونان وليس عند غيرهم. لكن هذه الظروف لا تسعفنا في تفسير التشابه في أغاني الزفاف -مثلاً- التي تكاد تكون واحدة منذ أيام سافو وحتى أيام سيد درويش، بل حتى أي أغنية زفاف في أيامنا هذه.
العروس في هذه الأغاني يجب أن تكون جميلة الوجه والقوام ولو كانت تنفر منها الضبع، تتمختر بدقة وغنج ولو كانت مشيتها كمشية جندي في صفوف الصاعقة النازية، تحيطها الورود والرياحين ولو زفت من دون زينة. وهي رقيقة أنيسة أليفة ولو كانت شرسة كنمرة شكسبير.
من كتاب «صحائف السؤال» الصادر عن دار النخبة.