
- أبو المساكين - 24 ديسمبر، 2022
- ماري… جميلة من «خواجات اسكندرية» - 20 يونيو، 2022
- غالية يا مصر - 23 يناير، 2021
التقت به بالصدفة في ندوة ثقافية دُعيَت إليها بمحض الصدفة! أما هو فقد جاء يكرَّم من وزارة الثقافة المصرية على كتابه الأخير. إنه الكاتب العربي المبدع (سيف الدين).
كان جالسًا في وقار ونضوج يتصفح كتابًا في يده، وجاء المسؤول عن الندوة وقدّم الحاضرين في الندوة .. وقال له:
- هذه (مي) كاتبة، وهذا هو الأستاذ سيف الدين جاء ليكرَّم من وزارة الثقافة المصرية، تونسي الجنسية، كتب العديد من الروايات، سارد مبدع ومشهور في بلده، بل في الوطن العربي كله، أثرى المكتبة العربية بإنتاجه الغزير من الرواية الطويلة والقصة القصيرة.
وقدّم لها في تواضع وأدب جم كتابه الذي نال عليه التكريم، وأهدته بدورها كتابها.
وتساءلت مي: لماذا يجلس وحيدًا هادئًا؟.. وشعرت بالشفقة عليه، وجرت نحوه دون أن تشعر.
- أستاذ سيف، ماذا تشرب؟
واندهش الرجل:
- أتعنين ما تقولين؟
- نعم، نعم، هل تفضل شاي أم قهوة؟
وذهبت إلى الكافتريا وأحضرتك اثنين قهوة، وجلسا معًا في صمت، فهما غريبان لا يعرفان سوى اسميهما.
وكان ينظر إليها من وقت لآخر، ويبتسم ابتسامته الجميلة، وفي هذه اللحظة دخل رجل إلى القاعة وأخذ سيف بين أحضانه وقال له:
- ياللا يا سيف، المدام جهزت السفرة والأولاد في انتظارك.
لكن سيف لم يكن متحمسًا للخروج مع صديقه، بل كان يريد أن يجلس مع هذه الساحرة التي سحرته من النظرة الأولى.
وقطع سيف هذا الصمت قائلًا:
- آه، نسيت أن أعرفك على مي، تكتب قصة قصيرة.
ويرد الصديق: أهلا بها.
أجابه الضيف وهو يتململ: سيف الأكل هايبرد، والجميع في انتظارك.
وخرجا معًا.
وعادت مي إلى بيتها بعد أن سلمت على الجميع، وعادت لممارسة حياتها الطبيعية، ونسيت هذا اليوم وما عادت تتذكره إلا لثوانٍ معدودة، واتصلت بها صديقتها قائلة:
- مي… من هذا الكاتب الذي كتب عنك هذا الكلام، وكيف فعل ذلك، وكيف يكتب اسمك بهذه الصراحة؟!
- دعيني أرى ما كتبه عني، وإذا بأسارير وجهها تنبسط وهي تضحك وتتعجب من هذا الكلام الجميل الذي أهداه لها:
- آه، كم أسعدتني يا سيف، فلم أسمع هذا الكلام الجميل من زمن طويل.
وفتحت مي قصته لتقرأها، واندهشت وتعجبت من هذا الإبداع، إن قلبها لا يكف عن الخفقان، يا له من مبدع، كيف استطاع أن يسيطر عليها من خلال السطور التي قرأتها؟..وأرادت مي أن تشكره، وكتبت له شكرًا جزيلًا:
- الأديب سيف، والسارد المبدع، شكرًا لك على ما كتبته عني وعن القاهرة الخالدة، والشكر موصول على هذا الكتاب الرائع الذي أقرأه الآن.
وجاء الرد رقيقًا كرقته.
- مي، هل أستطيع أن أكتب إليك بين الحين والآخر؟
وترددت ولكنها أجابته بتلقائيتها المعهودة:
- نعم على الرحب والسعة.
واستمرت الرسائل بينهما، وكل واحد منهما يحاول أن يعبر عما يشعر به. وتوطدت أواصر الصداقة بينهما، وحكى لها عن أسرته وأولاده وحكت له عن حياتها، وكيف استطاع أن يملأ حياتها بالبهجة والسعادة، حتى أنها أصبحت لا تفتح عيناها ولا تغلقهما إلى على صورته الحبيبة.
ووعدها أنه سيأتي لزيارتها لكنه لم يستطع. وبعد عدة أشهر قال لها:
- سوف أحضر لأراكِ يا حبيبتي.
وفرحت فرحة لا مثيل لها… آه، كم هي سعيدة تتعجل الأيام التي سيقضيها معها، إنها أيام في الجنة، فهي تتمنى أن تسعده كما أسعد قلبها، كم هي مشتاقة إليه، ماذا ستفعل؟
ستغير لون شعرها، سترتدي أحلى الحلى وأحلى الثياب وأجملها.. ولم تستطع أن تداري مشاعرها، وقالت له كل هذا الكلام، فقال:
- لا.. ولكن سني كبير يا مي.
- ولكني أحبك.
- أنا لا أملك نقودًا كثيرة.
- ولكني أحبك.
- لن أستطيع أن أترك عائلتي، كل الذي سأقضيه معك ثلاثة أيام.
- ولكني أحبك.
- لن تكسبي مني أي شيء.
- ولكني أحبك.
- أحبك وأشتاق إليك، هل تعلم ما هو الشوق؟
- إنه الدفء في شتاء العمر، والفرح الذي يهزم الأحزان.
كانت تطير في فرحها إليه، وتهرع إليه في حزنها. قالت له:
- كنت أنتظرك.
- قال لها: من أنبأكِ عني؟
- قالت: مئات الأماني.
وحين كان يطريها ويصفها بوسعة القلب وبطيبتها كانت تتعجب وتسأله:
- حبيبي، كيف قرأتني كتابًا مفتوحًا مع أنك لم ترني إلا لدقائق، ومع أنك رأيتني مرة واحدة، حين كنت أقرأ رسائلك كنت أرى نفسي من صنعك وأفكارك.
وكان أحيانًا يتوقف عن الكتابة وينساها أيامًا وليالٍ، لكنها لم تكف أبدًا عن الكتابة إليه.. المبدعون يعيشون في الخيال هكذا.. كانت تلتمس له الأعذار، فلا بد أنه مشغول بكتابة رواية جديدة، وأحيانًا كانت تغضب منه وتقسم ألا تكتب إليه بعد اليوم. وسرعان ما يعود إليها ويمطرها بأحلى الكلمات.
وآه ثم آه من جمال كلماته، إنها إكسير الحياة، بل بلسم لجراحها، وكم غنت: الحب كده…
ظل سيف يعدها باللقاء شهرًا وراء شهر، ولكنه لا يستطيع لأسباب لم يفصح عنها، وهي لا تزيد إلا حبًا له، بل تتغنى بأغنية أم كلثوم:
وعودك والخيال غالية عليا… وأغلى من حقيقة بين إيديا
وظلت تكتب له ولا يرد، وقد قالت له كثيرًا: يا حبيبي إن العاشق لا يعتذر.
ومضى عام وعاد لينساها، وكان غيابه طويلًا هذه المرة، وقررت أن تتركه، نعم ستتركه إنه حب من طرف واحد، وكتبت له رسالتها الأخيرة: «حين كنت صامتًا لا تكلمني ولا ترد على خطاباتي ولا ترسل لي رسالة واحدة تدل على حبك كتبت لك رسالة عطرتها بالعطور وملأتها بعبارات الحب والغزل وتواصلت معك على الرغم من بعد المسافات، كنت أختصر الزمن، وأتخطى كل الحدود الممكنة.
لماذا غاب حديثك وابتعد صوتك فبهت الشعر وصمتت الأغاني وماتت الكلمات؟
وتذكرت قصيدة لنزار قباني وظلت ترددها:
لماذا تخليت عني وأنت تعلم أني أحبك أكثر من نفسي، لماذا؟».
ولم يرد…
ربما تكون ضلت الطريق.
ولكنها فجأة وبدون مقدمات تذكرت أحلى كلمات الحب التي كان يرسلها لها، نعم إنه يحبها بل يكاد يعبدها، إنه صادق، نعم، بل إنه لم يكذب أبدًا.
إن رسائله من شدة صدقها تكاد تقسم لها على حبه لكنه يائس.
كيف له أن يترك كل شيء لأجلها… هل جننتِ يا مي؟.. أيترك بلده الجريح؟.. كيف يطاوعه ضميره، وهو العاشق المتيم الذي يعشق بلده ورفض أن يتركها وهو شاب قوي..
فكيف بعد مرور كل هذه السنين يترك عائلته وأهله وأصدقاءه الذين يُجلّونه ويعشقونه، إنه يمثل لهم مدرسة الإبداع.
وانهمرت دموعها.. لا لا، لن تدعه يرى دموعها.. يكفيه عذاب البعد.
الآن فقط فهمتي يا مي!
نعم ستنسحب من حياته، وسوف تلجأ إلى الله حتى تنساه، وكتبت له:
«حبيبي لن أنساك ما حييت، ولن أستبدليك بكنوز الأرض، وسأتمنى لك الخير كل الخير، ولكني أحبك».
من المجموعة القصصية «خواجات اسكندرية».